أقلام

الربذة.. منفى أبي ذر (رض): رحلة إلى الموقع

عبدالهادي الفضلي*

منفى أبي ذر ومدفنه
لا خلاف بين المؤرخين العرب ومن اعتمدهم من اللغويين العرب، في أن الصحابي الجليل جُندب بن جُنادة الغفاري توفي في الربذة سنة إحدى وثلاثين أو اثنتين وثلاثين للهجرة، ودفن فيها.
ففي (معجم ما استعجم) للبكري 2/636: «وبالربذة مات أبو ذر وحده لما نفي من المدينة ليس معه إلا امرأته وغلام له».
وفي (معجم البلدان) لياقوت الحموي 3/24: « والربذة من قرى المدينة على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق، على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، وبهذا الموضوع قبر أبي ذر الغفاري».
وفي (المصباح المنير) للفيومي – مادة ربذ: « الربذة وزان قصبة خرقة الصائغ يجلو بها الحلي، وبها سميت الربذة، وهي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذر الغفاري وجماعة من الصحابة».
وفي (تاج العروس) للزبيدي – مادة ربذ: «والربذة قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وهي عن المدينة في جهة الشرق على طريق حاج العراق، على نحو ثلاثة أيام… بها مدفن أبي ذر جندب بن جنادة الغفاري وغيره من الصحابة».
وفي (الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة) للسيد علي خان الشيرازي، ص252: «وأخرج الكشي عن حلام ابن أبي ذر الغفاري – وكانت له صحبة – قال: مكث أبو ذر بالربذة حتى مات».
وفي ص253: «وذكر أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الاستيعاب، قال: لما حضرت أبا ذر الوفاة، وهو بالربذة… ».
وفي ص254: «وفي معالم التنزيل: أن أبا ذر لما أخرجه عثمان إلى الربذة فأدركته منيته ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه… ».
وكان انتقال أبي ذر من المدينة المنورة إلى الربذة في أيام حكم عثمان بن عفان وبأمر منه لما كان يؤاخذه عليه من تصرفات في الإدارة والأعمال.
وقد التقاه غير واحد من المسلمين وهو في الربذة، منهم: أبو سخيلة «قال: حججت أنا وسلمان بن ربيعة بالربذة، قال: فأتيت أبا ذر فسلمنا عليه، وهو يقول: إن كانت بعدي فتنة، وهي كائنة، فعليكم كتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب (ع) فإني سمعت رسول الله (ص). وهو يقول: علي أول من آمن بي وصدقني وهو أول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو الفاروق بعدي يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب الدين، والمال يعسوب الظلمة»().
ومنهم: أبو الأسود الدؤلي، فقد «روى الواقدي… عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له: ألا تخبرني أخرجت من المدينة طائعاً أم خرجت مكرهاً؟» ().

*موقعها الجغرافي*
وكذلك لا خلاف بين المؤرخين والجغرافيين العرب، ومن اعتمدهم من اللغويين في أن الربذة محطة من محاط أو مرحلة من مراحل طريق الحاج العراقي المعروف بـ( درب زبيدة ) زوج هارون الرشيد الحاكم العباسي، لأمرها بإنشائه.
ففي (معجم البلدان 3/24): «والربذة من قرى المدينة على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز من فيد تريد مكة».
وفيه أيضاً، نقلاً عن كتاب نصر: «الربذة من منازل الحاج بين السليلة والعُمَق».
ويحدد الهمداني في كتابه (صفة جزيرة العرب)، ص338، موقعها بين السليلة والماوان، يقول: «ومن أخذ الجادة من مكة إلى معدن النقرة: فمن مكة إلى البستان… ومنه إلى ذات عرق… ومنها إلى الغمرة… ومنها إلى المسلح … ومنه إلى الأفيعية… ومنها إلى حرة بني سليم… ومنها إلى العُمَق… ومنها إلى السليلة … ومنها إلى الربذة، ثلاثة وعشرون ميلاً، وعرض الربذة خمسة وعشرون جزءاً، ومنها إلى الماوان… ومنها إلى معدن النقرة… وهي ملتقى الطريقين، فهذا تقدير طريق العراق في العروض على ما عمله بعض علماء العراق».
وتحديده هو الصواب حيث رأيت ذلك في رحلتي إلى الربذة لدراسة الموقع ميدانياً. وتنظر الخرائط المرافقة له.
وفي (المصباح المنير): «وهي (يعني الربذة) عن المدينة في جهة الشرق، على طريق حاج العراق، نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة».
وفي (تاج العروس): «الربذة من قرى المدينة على ثلاثة أيام- منها قرية ذات عرق() – على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة…
وفي كتاب أبي عبيد: من منازل الحج بين السليلة والعُمَق».
وكما تقدم أنها ليست بين السليلة والعمق، وإنما هي بين السليلة والماوان، ويؤيد هذا مضافاً لما سبق ما جاء في دراسة الزميل الأستاذ سيد عبد المجيد بكر في كتابه (الملامح الجغرافية لدروب الحجيج )، حيث سلسل منازل طريق الحاج العراقي من الكوفة إلى مكة كالتالي:
منازل الطرق: الكوفة^ النجف^ بين القادسية والعذيب^ بركة أم قرون^ بركة المغيثة، واقصة^ بركة العقبة^ القاع^ بركة الهيثم^ بركة زبالة^ الشقوق (الشيخيات) ^ البطان (بركة العشار) ^ الثعلبية^ زرود ^ الخزيمية^ الأجفر^بين الأجفر وفيد^ فيد^ توز (التوزي) ^ سميرا ^الحاجر (البعائث) ^ قروري^ النقرة^ مغيشة الماوان^ الربذة^ السليلة^ بئر عُمَق^ معدن بني سليم (مهد الذهب) ^ صفينة^ حاذة^ المسلح^الأفيعية^ غمرة^ ذات عرق (الضريبة) ^ بستان ابن معمر^ مكة المكرمة»().
وفي (معجم معالم الحجاز 4/19): «وتبعد الربذة (150) كيلاً مقاسه على الخريطة شمال المهد على درب زبيدة».
وعللت تسميتها بالربذة على تعليلات مختلفة، لعل أقربها إلى الواقع ما ذكره ابن الكبي عن الشرقي من أن «الربذة وزرود والشقرة بنات يثرب بن قانية بن مهليل بن ارم بن عبيل بن أرفخشد بن سام بن نوح»، فسميت الربذة باسم أولاهن وسميت قرية زرود باسم الثانية وقرية الشقرة باسم الثالثة.
وكانت الربذة من القرى العامرة في صدر الإسلام، ذكر هذا غير واحد، منهم الفيومي في (المصباح المنير)، والزبيدي في( تاج العروس).
واستمر عمرانها حتى سنة 319هـ حيث قامت الحرب بين أهلها وأهل الضرية الذين استنجدوا بالقرامطة فخربوها.
يقول ياقوت الحموي في (معجم البلدان 3/24): «وقرأت في تاريخ أبي محمد عبيد الله بن عبد المجيد بن سيران الأهوازي، قال: وفي سنة 319 خربت الربذة باتصال الحروب بين أهلها وبين ضرية، ثم استأمن أهل ضرية إلى القرامطة فاستنجدوهم عليهم، فارتحل. عن الربذة أهلها، فخربت، وكانت من أحسن منزل في طريق مكة».
ويقول الزبيدي في (تاج العروس- مادة ربذ): «وفي المراصد تبعاً لأصله: الربذة من قرى المدينة على ثلاثة أيام منها، قريبة من ذات عرق على الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، بها قبر أبي ذر، خربت في سنة تسع عشر وثلاثمائة بالقرامطة».
ويبدو أنها بقيت دارسة حتى يومنا هذا، وممن أشار إلى دروسها بعد الحرب المشار إليها الفيومي المتوفى سنة 770هـ عند زيارته للمدينة المنورة وسؤاله الناس فيها عن الربذة، وذلك في سنة 723هـ، قال: ” وهي (يعني الربذة) في وقتنا دارسة لا يعرف بها رسم، وهي عن المدينة في جهة الشرق على طريق حاج العراق نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة».

*الواقع الراهن*
زارها في أيامنا هذه المقدم البلادي قبل أن تجري فيها جامعة الرياض حفرياتها، وكتب في كتابه (معجم معالم الحجاز 4/19) يقول: «الربذة: المدينة التاريخية في شرق الحجاز وتعرف أطلالها اليوم باسم (البِركة)، وظهرت في بعض الخرائط باسم (بركة أبو سليم) وهو اسم معروف عند أهل الديار».

*الرحلة الميدانية*
وفي يوم الاثنين 23/6/1409هـ – 30/1/ 1989م قمت بالرحلة الميدانية:
غادرت جدة بعد الظهر بسيارة جيب تويوتا استعرتها من أحد الأصدقاء، وكان برفقتي الخطيب الحسيني الشيخ صالح العبيدي والشاب عابد العلاسي_ وهما من جدة_ وابناي معاد وفؤاد وابنا عمتهما السيدان السبطان الحسن والحسين الخليفة.
ووصلنا المدينة المنورة ليلاً، وبتنا في قصر الزهراء.
وفجر يوم الثلاثاء 24/6/1409هـ تشرفنا بزيارة مرقدي رسول الله (ص) وبضعته الزهراء (عليها السلام)، وبالصلاة في الروضة المطهرة، وبزيارة مراقد أئمة البقيع (ع)، ثم بزيارة مرقد الحمزة وشهداء أحد.
وبعد ذلك غادرنا المدينة المنورة إلى الربذة عن طريق القصيم. وتوقفنا عند أول محطة بعد المدينة، وتسمى (مشهد المدينة المنورة) لإمكان مشاهدة منائر الحرم النبوي الشريف منها، وبعد تناول وجبة الإفطار فيها توجهنا إلى الحناكية مروراً بصويدرة، ومن الحناكية إلى الشقران التي تأتي بعدها مباشرة
ومن الشقران نزلنا يمين الطريق مستقبلين مطلع الشمس، متجهين إلى الربذة، وضللنا الطريق أكثر من مرة في صحراء جرداء إلا من الحجارة القاسية والرمال الغزيرة.
وبعد السؤال وصلنا إلى جبل سنام (سمي بذلك لأنه يشبه سنام البعير في شكله)، والمسافة بينه وبين محطة الشقران حوالي خمسين كيلاً.
ومن سنام انحدرنا جهة القبلة إلى الربذة على بعد خمسة عشر كيلاً منه.

*الآثار في الموقع*
ورأينا فيها الآثار التي اكتشفتها جامعة الملك سعود- قسم المتاحف والآثار، وهي:
– بئر ماء عميقة، لاتزال صالحة للاستعمال.
– بركة ماء كبيرة جداً، اسطوانية الشكل.
– حوض ماء مستطيل الشكل، إلى جنب البركة، فيه فوهتان، إحداهما لاستقبال مياه السيول، والخرى للصب في البركة.
– مسجد كبير، لاتزال أسس جدرانه واسطواناته ومحرابه قائمة.
– محل وضوء، إلى جنب المسجد، يمين القبلة.
– مقبرة، في قبلة المسجد، يتوسطها قبر أبي ذر مع قبور آخرين من الصحابة، عليها كومة من الحجارة، وعند رأس حجرة ناتئة على قبر أبي ذر علامة له.
​وكل من المسجد والمقبرة مسيج بشبك من السلك.
– وهناك أماكن أخرى معدة للحفريات.
– ومجمع سكني من البناء الجاهز للجامعة، محاط بسياج، وعلى بابه لوحة كتب عليها: (المملكة العربية السعودية- وزارة التعليم العالي – جامعة الملك سعود – كلية الآداب – قسم المتاحف والآثار- حفريات الربذة).

*طريق العودة إلى جدّة*
وبعد أن زرنا قبر أبي ذر وقبور من معه من الصحابة وقرأنا الفاتحة عدنا قافلين إلى جدة.
استأجرنا شخصاً من مضارب- البدو الرعاة الساكنين هناك – وهم من قبيلة حرب – بمائة وخمسين ريالاً دليلاً إلى قرية صخيبرة، التي تبعد عن الربذة بأربعين كيلاً، وعندما وصلنا إليها عبأنا سيارتنا بالوقود، وصلينا الظهرين في مسجدها.
ثم غادرناها على طريق أرامكو (الجبيل – ينبع) ، وهو طريق ممهد بطول 200 كيلومتر، من صُخيبرة إلى الخط السريع (مكة- المدينة)، ودحلنا الخط عند مفرق اللثامة الذي يبعد عن المدينة المنورة بستين كيلومتر، وبعد أن تناولنا العشاء في اليتمة، وصلينا العشائين، توجهنا إلى جدة ووصلناها بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً، والحمد لله على توفيقه وفضله.

*الخلاصة*
ونخلص من كل ما تقدم إلى النتائج التالية:
• تقع الربذة شرقي المدينة المنورة، على طريق الحاج العراقي المعروف بدرب زبيدة، والذي يعد حالياً من آثار العباسيين.
• تعد الربذة حالياً موقعاً من مواقع الآثار في جزيرة العرب التابعة رسمياً لمديرية الآثار السعودية.
• يجري قسم المتاحف والآثار- بجامعة الملك سعود، حفريات توصل بها إلى اكتشاف ما أشرت إليه من معالم الطريق المذكور، ولا تزال حفرياته جارية.
• يقع قبر أبي ذر في وسط المقبرة المشار إليها.
• للربذة – الآن- عدة طرق، منها:
o طريق الحناكية ^ الشقران ^ جبل سنام ^ الربذة
o طريق اللثامة ^ الُخيبرة ^ الربذة
o طريق مهد الذهب ^ العمق ^السليلة ^ الربذة.
وكلها غير مزفتة ولا ممهدة إلا طريق اللثامة ^ الصخيبرة فإنه ممهد.
ومن المفيد أن أنوه في ختام حديثي هذا إلى أن من الناس – وبخاصة الإيرانيين – من يذهب إلى قرية (الواسطة) من قرى بدر فيزور قبر عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي سقط في معركة بدر جريحاً وحمل إلى هذه القرية، واسمها قديماً (الصفراء)() ، وتوفي فيها ودفن فيها، بدعوى أن قبره هو قبر أبي ذر.
وهي – كما نرى – دعوى لا تقوم على أساس، ولا أدري كيف ومن أين جاء هذا الخطأ.

*على قبر أبي ذر*
قطعت إليك البيدَ يحدو بي الشوق
أيـا ثـائـراً لله غايتــه الحقُ

ولم يثنني وحشُ المسـيرِ ووعره
ولا عاقني أن قد تَضُلُّ بي الطرقُ

فجئتُكَ والآمالُ تعلو كريمـةً
لأنك صنو الصدق بل إنك الصدقُ

وطال مسيري في القفار مخيفة
فلا الغرب معروف لديَّ ولا الشرقُ

وحتى رأيت القبر قبرَك ماثلاً
بكومـةِ أحجارً يصابحُها الوَدْقُ

وفي ثغرةٍ جرداء أَمحلَ ربعُها
سوى أن أملاك السماء لها رِفقُ

تعاليت عن منفى نفوك لأرضه
فصوتُك باقٍ ما بقي الصدقُ والحقُّ

وإن حسبـوا أن الممات نهايـةٌ
فقد خَسِروا فيها وكان لكَ السَّبْقُ

لقد كشفت تلك المواقف زيغَه
وناءِ بها حملاً وضاقَ به الطوقُ

وأضرمتها حتى تفجر ثورةً
نداؤك دكتْ عرشـَهُ وبدا الخرقُ

فعشتَ مع التاريخ أمثولة الهدى
وراح بلا قبرٍ يواري ولا شِقُ

فعُقباكَ عُقبى الأكرمين مثوبة
وعُقباهُ عقبى خاسرٍ مالـه رتقُ

سلامٌ على أرضٍ حوتكَ ومربع
ثويتَ بـه بدراً وهـالتُكَ الأفقٌ

ونورٍ من الفكرِ العظيمِ تشعـُّهُ
على هذه الدنيا فيسمُو به الخلقُ

 نشر في مجلة الموسم العدد 8 السنة 1990م

* فقيه وأكاديمي راحل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى