أقلام

القرآن وثيقة اللغة العربية

 

عبدالهادي الفضلي*

بغيَة أن نتبين معنى الوثيقة بوضوح، ولأن ننتهي إلى أن القرآن الكريم هو وثيقة اللغة العربية، أرى أن علينا أن نعرّف، ولو موجزا، بمنهج بحث اللغة وتدوينها.
يعتمد البحث اللغوي في تدوين أوليات مواده، وبخاصة مفردات الألفاظ وأساليب التعبير ومجاري الكلام، على مصدرين أساسيين هما: المشافهة والوثائق.
وتعني المشافهة، الاستماع إلى النطق مباشرة من أبنائها الذين هم من أرومتها والذين يضمهم إطارها الأصيل، كما كان يصنع علماء اللغة والنحو أمثال: الخليل بن أحمد الفراهيدي رئيس مدرستي البصرة والكوفة، وتلميذيه: سيبويه البصري، والكسائي الكوفي، عندما كانوا يرتادون بوادي نجد والحجاز منتجعين منابت النطق العربي الأصيل باستماع كلام الفصحاء الخلص من أبنائهما، وعندما كانوا يشافهون الأعراب والرواة النازلين مشارف الحاضرتين، البصرة والكوفة وضواحيهما، أمثال: أبي الدقيش وأبي العميثل.
وتعني الوثيقة –هنا- تلك المدونة التي يستطاع في ضوئها التعرف إلى نشأة اللغة وتاريخها، والتي تقدم للباحثين والدارسين المادة العلمية الخام لإجراء بحوثهم ودراساتهم فيها وعليها.
وإلى هنا.. إننا عندما نرجع إلى تراثنا بغية معرفة وثائق لغتنا التي على أساس منها نستطيع أن نقيم بناء معارف لغتنا وعلومها، نجد أنها تتمثل في القرآن الكريم والنقوش والشعر الجاهلي.
وتمشيا مع أصول مناهج البحث اللغوي في تدوين اللغة ووضع علومها، يتحتم علينا قبل الاستقاء من هذه الوثائق كمصادر، التأكد هنا من أمرين مهمين، هما: أصالة هذه الوثائق ووفاء محتوياتها بالمادة.
وأعني بالتأكد من الأصالة هنا: التأكد من صحة نسبة هذه الوثائق إلى عصر الفصاحة، ومن وفاء المحتويات: توفر هذه الوثائق على ما يمد البحث بالمادة الوافية لإقامة تدوين اللغة ووضع علومها.
ففي هذا المجال نجد أن أقدم النقوش العربية التي عثر عليها هي نقش النمارة، ونقش زبد، ونقش حران، والأخير منها هو أول نقش يضم نصاً عربيا كاملا في كل كلماته، ومن هنا كان (أعظم قيمة من النقشين الآخرين) كما يقول الدكتور ولفنسون.
وأقدم ما وقف عليه في هذه النقوش من الأسلوب العربي هي جملة: (فلم يبلغ ملك مبلغه)، وهي من نص نقش النمارة.
وهذه النقوش، مع التسليم بأصالتها، غير وافية، لما في الأولين منها من نقص، ولما في الأخير منها من قلة غير ناهضة بإعطائنا الصورة الكاملة عن اللغة العربية في تاريخها القديم.
وبعد تلكم النقوش، يأتي الشعر الجاهلي الذي (لا يتجاوز في القدمية القرن السادس الميلادي، وأقدمه كلام امرئ القيس وأعمامه، وذلك في نحو ثمانين سنة قبل التاريخ الهجري).
أما تدوينه فقد تأخر إلى القرن الثاني الهجري عند قيام حركة التدوين في العصر العباسي، ومن أشهر من قام بتدوينه آنذاك: أبو عمرو الشيباني، والسكري، والأصمعي، وابن السكيت، وكلهم علماء لغويون.
وكان تأخر تدوينه هذه المدة التي تقرب من قرنين، مدعاة إلى الشك في أصالته وإلى التزيد فيه والتغيير وما إليهما من عوارض أخرى، ومؤكدا ذلك بشيوع ظاهرة النحل في عصر تدوينه بوجود الرواة النحالين للشعر أمثال: خلف الأحمر البصري، وحماد الراوية الكوفي.
ولعل أول من أثار الشك حول نسبة الشعر الجاهلي، هو ابن هشام في كتابه (سيرة النبي)، صلى الله عليه وآله وسلم، في أمثال تعليقه على البيت المنسوب لتبّع:

أولى لهم بعقاب يوم مفسد
حنقا على سبطين حلا يثربا

بقوله: (الشعر الذي فيه هذا البيت مصنوع فذلك الذي منعنا من إثباته، والذي دوّن في تلك الفترة منه حوالي ثلاثين ديوانا لشعراء جاهليين أقدمهم ((مهلهل)) و ((امرؤ القيس))، وآخرين مخضرمين أقدمهم ((لبيد)) و((الحطيئة))، وستة وعشرين لأشعار ست وعشرين قبيلة دونها ((السكري)).
وهي بين أيدينا جميعها، وعند الرجوع إليها ونحن نلتمس منها تراثنا اللغوي وافيا، وحياة قائليه صورة واضحة المعالم، شاملة لكل الظواهر أو أكثرها، نخرج بنتيجة الدكتور طه حسين التي تقول: ((فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك طريق أمريء القيس، والنابغة، والأعشى، وزهير، وقس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي، لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك طريقا أخرى وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن، فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي، ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه)).
ذلك لأن القرآن متواتر، والتواتر ينهي إلى اليقين في الأصالة، ولأن الشعر الجاهلي روايته لا تعدو أن تكون خبر الواحد، وهو _مع وثاقة رواية_ لا ينهي إلا إلى الظن بالأصالة، كما يقول علماء أصول الفقه مستمدين ذلك من الظاهرة الاجتماعية على مر العصور.
شيء آخر هو أن القرآن الكريم كان يدون من حين نزوله، وتم تدوينه كاملا في عهد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وبأمر منه، وجمع كاملا في ملف في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ووحد بمصحف في عهد الخليفة عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
وكل هذا كان من باب الحيطة لئلا يتسرب إليه النقصان والزيادة أو التبديل والتصحيف، ومن ثم الشك وعدم الوثوق. ومن هنا يقول الدكتور (ولفنسون) في كتابه (تاريخ اللغات السامية): لا شك أن صحف القرآن الكريم هي أقدم صحف مدوّنه كاملة وصلت إلينا عن اللغة العربية قبل أن تصل إلينا قصائد مدوّنه من الشعر الجاهلي، فصحف القرآن هي التي يجب البدء بالبحث فيها عن نشأة اللغة العربية).
وإذا رجعنا إلى نتائج المقارنة بين مادة القرآن الكريم، ومادة الشعر الجاهلي، في تصويرهما للحياة الجاهلية، بيئة اللغة الواصلة إلينا، النتائج التي استعرضها الدكتور طه حسين، نجد أن القرآن وحده قد توفر على مدّنا بصورة وافية عن الحياة الدينية والعقلية والاقتصادية والاجتماعية للعرب آنذاك، وعن اتصالهم الاجتماعي بالروم والفرس ومعرفتهم بحضارات الأمم السابقة، وعن البيئة الجغرافية التي نمت وترعرعت فيها لغتنا حينذاك.
ومنه نخلص إلى أن القرآن الكريم وحده الوثيقة الأصيلة التي توقفنا بشمول واسع على المواد التالية:
– البيئة العربية التي ولدت فيها اللغة ونشأت وتطورت، وهو أمر أساسي في دراسة اللغة لما يلقيه التعرف إلى البيئة من أضواء كاشفة لطبيعة اللغة وملابستها.
– عقلية ونفسية وسلوك الإنسان العربي الذي قال اللغة وعانى تجربتها في تاريخها الطويل، وهو مما يلقي الضوء على طبيعتها وملابستها أيضا.
– لهجات القبائل والمجتمعات العربية مما يوقفنا على الامتداد التاريخي للغة مكانا وزمانا، أفقيا وعموديا، وذلك أن القرآن لم تختص به لهجة قريش وحدها. يقول ابن عبد البر في ((التمهيد)): ((قول من قال: انزل، ويعني ((القرآن)) بلغة قريش معناه عندي (الأغلب)، لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القراءات من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز)).
وقَد ضمت قائمة السيوطي في (الإتقان) من أسماء قبائل ومجتمعات لهجات القرآن غير لهجة قريش، أربعة وأربعين اسما، مقترنة بمفردات، تلكم اللهجات، وهي: اليمن، هذيل، طيء، عمان، أزد شنوءة، هوزان، النخع، عبس، كنانة، جرهم، مذحج، خثعم، قيس عيلان، سعد العشيرة، كندة، عذرة، حضرموت، غطفان، مزينة، لخم، جذام، حنيفة، اليمامة، سليم، عمارة، خزاعة، تميم، أنمار، أشعر، الأوس، الخزرج، مدين، نمير، سدوس، العمالقة، غسان، ثعلب، عامر بن صعصعة، ثقيف، بلى، النمر، همدان، نصر ابن معاوية، عك.
– التقارض بين اللغة العربية وأخواتها الساميات، وبينها وبين جاراتها كالفارسية والرومية، وهو شيء مهم في معرفة مدى مرونة اللغة وحيويتها وقدرتها على مقاومة العوادي وعلى التفاعل والإفادة منه.
ويقول (إتقان) السيوطي هنا، بعد أن يقدم لنا إحصاء بمعرّبات القرآن الكريم ولغاتها: (فهذا ما وقفت عليه من الألفاظ المعربة في القرآن بعد الفحص الشديد سنين، ولم يجتمع قبل في كتاب قبلي. هذا وقد نظم القاضي (تاج الدين بن السبكي) منها سبعة وعشرين لفظا في أبيات، وذيل عليها (الحافظ أبو الفضل بن حجر) بأبيات فيها أربعة وعشرين لفظا، وذيلت عليهما بالباقي، وهو بضع وستون، فتمت أكثر من مائة لفظة).
والساميات التي قارضتها عربية القرآن الكريم، هي: الحميرية، والسبئية، والسريانية، والعبرية، والنبطية، والحبشية، أما اللغات الأخرى فهي: الفارسية، والرومية، والبربرية، والقبطية، والهندية، والزنجية.
– المفردات: وهي الرصيد والغطاء الذهبيان لثروة الأمة اللغوية.

– الأسلوب الأدبي والتراكيب الكلامية التي تعرب عن مدى ما انتهى إليه اللسان العربي من قدرة في البيان والإفصاح.

​ونتبين هذا بوضوح عندما نرجع إلى قراءة ما ألف في ثقافة القرآن الكريم مقارنا بما ألف في ثقافة الشعر الجاهلي.

​ولنأخذ لذلك فترة معينة هي تلك التي بدأها (ابن عباس) بوضعه تفسيره وبجواباته لسؤالات (نافع بن الأزرق)، وهي من أقدم ما وصلنا من ثقافة القرآن وثقافة الشعر الجاهلي اللتين توفر التفسير على أولاهما، وتوفرت الإجابات على كليهما معا، والتي انتهت (أعني الفترة) بعام 377هـ، وهو العام الذي أنهى فيه (ابن النديم) _وفي السبت مستهل شعبان منه_ إحصاءه للكتب المؤلفة في ثقافة القرآن، فإننا نجد الكتب التي ألفت في ثقافة القرآن تبلغ في قائمة ابن النديم 250 كتابا وهي حسبما أحصيتها، كما يلي:

​47 كتابا في التفسير، و25 كتابا في معاني القرآن ومشكله، و14 كتابا في غريب القرآن، و6 كتب في لغات القرآن، و22 كتابا في القراءات، و(القراءات ديوان خصائص هذه العربية)، كما يقول الدكتور عبد الصبور شاهين، و6 كتب في النقط والشكل للقرآن، و4 كتب في لامات القرآن، و12 كتابا في الوقف والابتداء في القرآن، و7 كتب في اختلاف المصاحف، و6 كتب في وقف التمام، وكتابان فيما اتفقت ألفاظه ومعانيه، وعشرة كتب في متشابه القرآن، وثلاثة كتب في هجاء المصاحف، وثلاثة كتب في مقطوع القرآن وموصوله، و6 كتب في أجزاء القرآن، و12 كتبا في فضائل القرآن، و19 كتابا في عدد آي القرآن، و18 كتابا في أحكام القرآن، و21 كتابا في معاني شتى.

​بينما لم يؤلف في تلك الفترة للشعر الجاهلي إلا ما سبق أن قدمته من حوالي ستة وخمسين ديوانا كمادة خام لثقافة الشعر الجاهلي ، وجوابات (ابن عباس) لسؤالات (ابن الأزرق).

واستمر الزخم القرآني يمد ثقافته حتى بلغت مؤلفاته عشرات الألوف، وكثيرها في فكر اللغة العربية. أما الشعر الجاهلي فلم تبلغ مؤلفاته المئات حتى اليوم.

​ودلالة هذا هو ما قدمته من اعتماد القرآن الكريم واعتداده وثيقة اللغة العربية.

​وبعد هذا كله ننتهي إلى نتيجتين مهمتين في الدراسات اللغوية هما:

– اعتداد القرآن الكريم المرجع الأعلى للغة، واعتداد الشعر الجاهلي الموثوق بأصالته مرجعا ثانيا بعد القرآن. ومعنى هذا: أننا نرجع في بحثنا لعلوم العربية آدابها أولا، إلى القرآن الكريم ثم إلى الشعر الجاهلي، لا كما صنع الأقدمون من اعتمادهم الشعر الجاهلي في الغالب أولا، كما في وضع علم النحو والصرف والمعاجم، حتى قال الإمام ((الرازي)) ناعيا عليهم صنيعهم: ((إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول فجواز إثباتها من القرآن العظيم أولى))، وحتى قال ((الدماميني)) ناقدا لهم ((إن العربية تؤخذ من القرآن المعجز بصفحاته. وكيف يجوز الاحتجاج والأخذ بأقوال نقلها عن العرب من لا يعتمد عليه لجهله أو لعدم عدالته أو جهالة علمه وعدالته، وترك الأخذ والتمسك بما ثبت تواتره عمن ثبتت عصمته عن الغلط، وهو رسول الله، صلى الله عليه وسلم)).
​إنّنَا نستطيع أن نأتي بمعجم لغوي كامل أساسه القرآن وبنحو وبلاغة وغيرهما من علوم العربية علوما كاملة أساسها القرآن، ونحن واجدون مادة هذه، متوفرة في أمثال كتب إعجاز القرآن وإعرابه ولغاته وغيرها.

– اعتداد القرآن الكريم المقياس الأعلى للغة العرب لا الشعر الجاهلي؛ يقول الأستاذ عبد الوهاب حمودة بهذا الصدد: (فانه لا ينبغي أن يقاس القرآن على شيء، بل الواجب أن يقاس عليه فهو النص الصحيح الثابت المتواتر، وليس هناك نص مما يستشهد به يشبهه في قوة إثباته وتواتر روايته والقطع بصحته في متنه ولفظه).
​وقد تنبه إلى هذا قديما ابن طاووس في (كشف المحجة)، والرازي في تفسيره، والدماميني، كما ألمحت، وغيرهم.

​في ضوء ما تقدم، إننا مدعوون، فيما أرى، إلى إعادة النظر في تراثنا اللغوي، وفي ثقافتنا اللغوية، ومحاولة إقامتها على أساس من ثقافة القرآن اللغوية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى