أقلام

ملّا علي السمين .. درسٌ في العزيمة

 

عبدالله البحراني

من البشر من لديهم عزيمة تثير الإعجاب. وترى حياتهم سلسلة من العمل الدؤوب والصبر والمثابرة. وغالباً ما يغادرون الدنيا وقد تركوا أعمالاً قد تكون صغيرة، ولكنها تبقى في ذاكرة الأيام. من هؤلاء: الحاج ملا علي السمين (أبو عبدالحسين). فهو بحق شخصية متميزة، ونجم من نجوم القمة.

الملا علي بن محمد بن حسن بن علي السمين (أبو عبدالحسين). ويرجع نسبه إلى جدهم الأكبر (علي بن عبدالله). وتتفرع العائلة إلى ثلاثة فروع رئيسية: (الموسى)، و(السميِّن)، و(الصاغة). 1

تزوج أولاً من المرحومة فضة بنت أحمد بن حسن الناصر (ت 1428). والثانية المرحومة زهرة بنت علي بن محمد البوعزران (ت 1420). وأخيراً اقترن بالمرحومة فاطمة بنت حسين بن محمد آل سبيت (السبتي). 2

أما والدته فهي (من المهنا الحمد/ أخت علي بن عبدالله المهنا/ عمة نوح).

عمل في مجال الصياغة، وخصوصا في صناعة السيوف والخناجر. وتدرب على يديه الكثير من سكان الحي، ومنهم أبناؤه. وكانت سيوفه وأعماله تلقى رواجاً في جنوب المملكة العربية السعودية ودول الخليج.

وعرفت مصوغاته بالدقة واللمسات الجديدة، وخصوصا عمل تلبيسات الخناجر بطريقة احترافية وغاية في الجمال. كما وصفه الحاج جواد بن حسين آل رمضان: (على أنه متفنن وماهر في حرفته. عرف عنه المهارة والإتقان في صناعة الخناجر والسيوف. ويعد من أشهر من مارسها في تلك الفترة. وفي التسعينيات الهجرية بعد الثلاثمائة والألف من بعد الهجرة النبوية انتقل إلى الهفوف، وفتح له دكاناً في دهليز بيت زوجته فاطمة آل سبيت، في الحويش بصكة الصاغة، وأغلب زبائنه من علية القوم). 3

والملا علي ذو حركة دائمة لا يركن للدعة والخمول. خدم الإمام الحسين (عليه السلام) في عدة مجالات، ومنها الخطابة الحسينية. وكذلك تولى الإشراف على وقفٍ لجدهم (الحاج حسن بن علي السمين). وكان نخلاً يقع في طرف عين منصور بشمال الأحساء، يعرف بـ (العجلانية). أوقف ليصـرف ريعه في صيانة (ختمة). والباقي لتقديم وجبة العشاء في ليلة العاشر من المحرم. 4 والرجل يحفظ جزءاً كبيراً من كتاب الله العزيز، والكثير من الأدعية والزيارات، بما فيها دعاء الصباح.

وعمل على إعمار هذا الوقف المهمل. وكلفه ذلك الكثير من الجهد والمال. كما واجهته في سبيل ذلك مصاعب وعوائق جمة. حتى أنه اضطر في إحدى المراحل لبيع أحد بيوته لمواصلة هذا الطريق. 5 ولكنه وبشخصيته المحبة للتحدي واصل العمل حتى أضحى هذا الوقف مثمراً، وأصبح له عائدٌ مجزٍ، ليصـرف على أعمال الوقف. كل هذا بفضل وجهود ومتابعة هذا الرجل الصلب. وبهذا يكون الملا علي السمين قد خدم سيد الشهداء في أكثر من باب.

والمتابع لحياة هذا الرجل، يجدها سلسلة من الإنجازات والهمة العالية. ذو تصميم وإرادة متجددة. ومن الأمثلة على ذلك أنه عمل على بناء أول بيت له في حي (الشعبة القديمة) بنفسه، ولم يستعن بعمال البناء كالمعتاد، بل كان يباشر عملية البناء بنفسه. وينقل ابنه الحاج عبدالحسين بن ملا علي السمين أن والده كان يقوم على تصنيع الطابوق الإسمنتي لهذا البيت بنفسه. وقام على تصميم (مكبس يدوي) لصنع الطابوق (الطوب). ويقوم بعمل خلطة الإسمنت ويصبها في تلك القوالب. وبعد أن تجف يقوم باستخدامها. كان ذلك قبيل انتشار مصانع الطوب في المنطقة. ويعتبر بيته أول بيت شيد بواسطة الطابوق في حي الشعبة (بمحلة اليوسفي). وكان له دكان للصياغة استخرجه من تلك الدار. 6

وبعد ذلك بسنوات طُرح (مخطط الخرس) للبيع بشمال المبرز، فكان (رحمه الله) من أوائل من اشترى بهذا الحي الجديد. فقد اشترى أرضاً شيد عليها بيتاً لسكناه، معتمداً على نفسه، ودون الاستعانة بمخطط هندسي.

ويعتبر هذا البيت الوحيد والذي تم بناؤه بطريقة البناء العربي (غير مسلح) في حي الخرس. وبعد أن قام على تأسيس البيت، استعان بالمقاول العبيدان ليكمل البناء. كما حفر في هذا البيت (بئر ماء)، حيث لم تصل الخدمات لذلك الحي. وبعد وصول التيار الكهربائي لحي الخرس، قام على تحويل هذا الجليب إلى بئر (ارتوازي)، وعمّقه وزوّده بمضخة كبيرة (قيمتها حوالي تسعة آلاف ريال) تم توصيلها بخزان كبير. وقام على توصيل المياه لبيوت الجيران عبر شبكة مواسير لقاء اشتراك شهري.

ومن البيوت التي تم توصيل المياه لها: بيت الحاج محمد بن المرحوم أحمد البحراني وبيت السيد محمد السيد حسين اليوسف. 7

وبعد سنوات من العمل المضني والمتواصل، أصيب (رحمه الله) بما يعرف باحتكاك الركبتين، فأصبح المشـي والتنقل بالنسبة إليه فيه صعوبة بالغة. وقام باستخدام دراجة نارية (ماطور) ذو ثلاث عجلات للتنقل والقيام بشؤون حياته. ولكنه وجد أن الدراجة النارية ثقيلة عليه، والدراجة الهوائية تحتاج للدفع بالرجلين بقوة، ولم يتمكن اليأس منه أو يتوقف، بل تعلم قيادة السيارة وهو في مرحلة الشيخوخة. واشترى سيارة (سوزوكي) جديدة، من النوع الصغير والذي كان يناسب (الصكك) الضيقة في ذلك الوقت. وبعد قيادتها لفترة لاحظ أولاده ومحبوه أن قيادته (رحمه الله) للسيارة لمن تكن متقنة، وقد تسبب خطراً عليه وعلى المجتمع.

وتمكن أبناؤه من إقناعه بالتوقف عن قيادة السيارة. ورافقه ابنه الحاج عبدالحسين (حفظه الله) إلى سوريا. وهناك صممت له دراجة هوائية ذات ثلاث عجلات، وبدل أن تدفع بالرجلين، عدلت لتدفع باليدين, لأنه وكما أسلفنا كانت لديه مشاكل في الركبتين. وقد شاهدناه وهو يستخدم هذه العجلة لسنوات طويلة. وكانت مشاعر الناس في تلك الفترة مزيجاً بين الإعجاب والإشفاق عليه في ذلك السن. متنقلاً بهذه الدراجة ما بين المبرز والهفوف والخرس وطرف عين منصور.

وفي مرحلة لاحقة قام على تطوير هذه العجلة بنفسه، وكان ينقل معه مرافقين على هذه الدراجة في بعض الأوقات. كما أنه سافر إلى الدمام بالدراجة (النارية). وسبق له السفر إلى الكويت في شبابه، ومنها إلى الزبير والمحمرة مشياً على الأقدام. وهذا مؤشرٌ على الإصرار ومواصلة الطريق لتحقيق غاياته. 8

وسأله يوماً (الحاج محمد بن المرحوم أحمد حسين البحراني أبو أحمد) مستغرباً من ذهابه لنخل العجلانية قرب عين أم سبعة، والعودة بواسطة السيكل، فأجاب: أن هذا أمر بسيط، فقد كنت أذهب إلى الدمام (بالسيكل).

فسأله بو أحمد: وماذا عن طلعة غونان! 9

فقال: كنت أحمل السيكل معي وأصعد به راجلاً.

ومن الأمثلة على قوة بأسه وهمته العالية أنه كان يقوم بنقل (جذوع النخيل اليابسة) وذلك بدحرجتها بنفسه 10 من طرف عين منصور وحتى حي الشعبة. لتستخدم (تركابة) لآبار المياه في ذلك الزمان. لأن عملية نزح الماء من الآبار يلزم داعمات خشبية تسمى تركابة. وكما هو معلوم أن عملية جلب تلك الجذوع وبهذه الطريقة فيها مشقة وتعب. خصوصاً وأن المسافة من طرف عين منصور وحتى المبرز تقدر بحوالي ثلاثة كيلو متر تقريباً. 11

نهاية المطاف

توفي الملا علي السمين في ٦/٦/١٤٢٠ هجري، عن عمر يناهز الثانية والتسعين. ودفن بمقبرة الشعبة.

وأخيراً لقد ترجم (الملا علي السمين) هذا القلق وهذ العناد إلى فعل إيجابي. ولم تشغله نظرة المجتمع وتحفظه على كل ما هو جديد. ولم يستسلم لتقدمه في السن، وآثارها البدنية والنفسية. وهو الذي نسخ القرآن الكريم كاملاً بخط يده. وأهداه لمكتبة الإمام الرضا (عليه السلام) بمدينة مشهد المقدسة، ليبقى شاهداً له ما بقي حرف فيه. 12 فرحمة الله عليه وأسكنه فسيح جنانه.

__________________________________

هوامش:

1 سيرة الخطيب الشيخ عبدالله بن حسين السمين, الأستاذ علي المحمدعلي، 1433 هجري. (بتصرّف)

2 المرحومة فاطمة السبتي (الملاية سبتية): عرفت بشخصيتها القوية. ونقل لنا الحاج حسين بن حسن بوكنان أنه في إحدى السنوات كانت (الملاية سبتية) معهم في رحلة الحج لذلك العام. وكانت تعتمد على نفسها في أداء المناسك والزيارة. ويقول الحاج جواد بن حسين آل رمضان: (أن الملاية سبتية أسست حسينية لخدمة سيد الشهداء في المنطقة، كما أنها أول من وضع سخانة ماء كهربائية بمنزلها في تلك الحارة. توفيت بعد وفاة أمها بفترة قصيرة).

3 لقاء مع الحاج جواد بن حسين آل رمضان في منزله، عام 1432 هجري.

4 لقاء مع (ابنه) الحاج عبدالحسين بن ملا علي السمين، مصدر سابق.

5 المصدر السابق.

6 والحاج عبدالحسين بن ملا علي السمين: من الحرفيين المهرة في الأحساء. وخصوصا في تصميم وصناعة الخناجر والسيوف التراثية. وكان أغلب زبائنه من جنوب المملكة. فتح له دكاناً في شارع القصاصيب (بوعظم) في وسط المبرز. وأخيراً فتح له محل للصياغة بمحلة السدرة.

درس الحاج عبدالحسين السمين لدى السيد علي السيد حسين العلي القرآن الكريم. ولحبه للدراسة والعلم فقد التحق بالمدرسة الثالثة بالمبرز (صلاح الدين) في الفترة المسائية. ومنها حصل على شهادة الصف السادس بنجاح. ويشرف الحاج عبدالحسين السمين على مجلس قراءة سنوي على شرف الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) منذ حوالي نصف قرن من الزمان. ويفتح مجلسه ليستقبل أقاربه ومحبيه في مساء الجمعة من كل أسبوع.

7 لقاء مع الحاج محمد بن أحمد بن حسين البحراني (أبي أحمد) بمنزله بحي الخرس شمال المبرز.

8 الحاج عبدالحسين بن ملا علي السمين, مصدر سابق

9 غونان: منطقة صحراوية تقع بين مدينة ابقيق والظهران. وفي هذا الطريق (طلعة حادة) يلزم اجتيازها لمواصلة الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى