أقلام

الصوتُ الملكوتيّ

رباب حسين النمر
من أين تمسك أطراف الحديث؟ ومن أين تبدأ حين تقف على حد فاصل بين برزخين؟ وتفاجئك الحقائق الأزليّة وعقلك لا يزال كأنه تحت تأثير بنج مخدر لم يستوعب الحقيقة بعد، ينظر في الآثار المادية، ويتفكر في المآثر المعنوية، ويتناول السيرة الذاتية كشريط سينمائي يستمر عرضه من بداية القصة حتى النهاية التي لن تكون سوى بداية جديدة.
هو ذا تناول اللحظات الفاصلة بين الموت والحياة، وهي ذي المشاعر حين تجسّ الانتقال المُجنّح لعزيز بين اللحظات الأخيرة من الدنيا، واللحظات الأولى من الآخرة.
لم أُبَلّغ نبأ وفاته شفاهيا إلا قد وصلني من خلال تعزية واتسابية، وضعتها إحدى القريبات باسمي شخصيا، فاهتزّت الروح كطير شطرته صاعقة ..
ومع انهمار الدموع الساخنة تنهمر الذكريات، تنهمر الصور، وينهمر الصوت الملائكي متدفقاً من جمجمتي التي خزّنته حتى أصبح جزءاً من كياني.
حين أحاول في مقاربة أن أصف جدي الاستثنائي الحاج علي محمد الحسين النمر ، أو لأدعوه باسمه المحبب إلى قلبي الذي اعتدته منذ أعوام الطفولة (أبويا علي) تتصور في الذهن كُتلة من الروحانية والإشعاع النوراني تسير بجسد رقيق على بساط الأرض فتُحيل اليباس إلى يانع، والمُصفر إلى منتعش بالاخضرار.
وحين يرد اسمه على خاطري فرديفه (واجعل لساني بذكرك لهجا وقلبي بحبك متيّما) لقد كان أجدر من يجسّد هذا المقطع من الدعاء المقدس بسلوكه الفعلي ..
لسانه رطب بذكر الله تعالى في كل حالاته، لا يفتر عن ذكر الله، ولا يفتر عن الدعاء أو تلاوة الذكر الحكيم، فإذا جالسته تجد روحك منجذبة دون أن تشعر إلى هالته الروحية، يردد لسانك وروحك ما يردده من أذكار ويُسبل على روحك خشوعا من خشوعه.
وللفجر في حضورة نكهة أخرى. يخترق بحنجرته الملائكية ظلمة الليل وأواخر الأسحار، يتسلل صوته الرخيم وتسبيحاته الخاشعة، وأذكار الأدعية التي يحفظها عن ظهر قلب. تتسلل عبر خيوط الفجر الأولى إلى مخادعنا، فتوقظنا وتنفض عن أعيننا غبش النعاس، فننهض برغبة وانجذاب لأداء صلاة الفجر، واستذكار ما تبقى لنا من دروس قبل الانطلاق إلى المدرسة في أوقات الاختبارات العامة، حيث كنت أتسلل إلى بيته بحثا عن الهدوء المساعد على جودة الحفظ و المذاكرة.
المسجد هو القبلة اليومية التي يقصدها، ويحرص على التواجد به قبل أداء الفرض بزمن كافٍ، لم يمنعه من هذا التلازم تجارة أو مال أو مصالح عامة، ولا حتى انهماك في زيارات، أو انشغال بأي أمر من أمور الدنيا. ربما منعته بعض الظروف الصحية في أواخر عمره المبارك من أداء بعض الفروض، فكان يحوّل مخدعه إلى مسجد، و نتحول من حوله إلى مُصلّين، نستغل تواجده و إقامته للصلاة، ولا سيما المغربين، بصوت جهوري فتحلق أرواحنا في سربه، وننهل من فيوضاته الروحانية.
(سبحة بدو هريسة، نچابتها أم عيسى)
كل من تداعب هذه العبارة أسماعه من أبنائه، وأحفاده، وأهل بيته يعرف جيدا ماذا تعني وإلى ماذا ترمز، ويدرك ارتباطها الشديد بتباسطه مع الأطفال وشغفه بهم، ولطفه الشديد معهم، وفرحه الكبير حين يلقاهم. فالأطفال أحباب الله، وكان رحمه الله يهواهم ويسعد بتواجدهم، ويلتذ باللعب معهم، وتقديم الهدايا لهم كلما عاد من سفر أو زيارة أو حج أو عمرة.
من السمات البارزة التي امتاز بها رحمه الله: الورع والتقى، والزهد عن الزبرج والمظاهر. يكفيه من الدنيا أن يتزود بالقليل من القوت ليتقوّى به على العبادة، ويكتفي بلباس متواضع، وقدر الاحتياج من الأثاث وسائر المقتنيات. وفي المقابل كان سخي اليد مع الأرحام، يبذل في سبيل تزويج الشباب، وكفالة بعض من يتعفف من الأسر، وإكرام الضيوف ولا سيما العلماء منهم، ويكثر مجالستهم.
وله في دعم العلم والعلماء وتأسيس المشاريع العلمية إسهامات ومساندة وتمويل.
ووجوه خير أخرى كان يبذل لأجلها، ويتعمد إخفاءها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، تبقى في طي السر والكتمان.
وبعد عمر مهّد فيه لعمره الأخروي، وحرث الأرض لحياة أخرى بالبذل والعطاء، و العبادة والدعاء، غادر الدار الفانية إلى الدار الباقية، وفاضت روحه الطاهرة بهدوء وسلام. غادر صوته الملكوتي، وغادر جسده الشفيف، وبقيت روحه ماثلة أمامنا تحوطنا بحنانها المعهود، و دماثتها المحبوبة، نستشعر رفرفاتها وخفقانها، فألف رحمة ونور على روحه وتربته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى