أقلام

الحب بين ثقافتين

د/ عبدالجليل الخليفة

الحب كلمة قليلة الحروف كثيرة المعاني غزيرة المشاعر عظيمة الآثار على حياة الأفراد و الأمم. فماهو الحب؟

‎الحب هو الميل و الإنجذاب نحو المحبوب. فحب الأم لوليدها يختلف عن حب الأخ لأخيه و عن حب الفرد لصديقه و عن حب الزوج لزوجته و عن حب الإنسان للمبادئ و القيم التي يؤمن بها و عن حب الإنسان لشخصية تاريخية لم يعش معها. إن هذا الاختلاف الكبير في نوع الحب ودرجته شغل بال المفكرين و الفلاسفة منذ ان وطأ الإنسان هذه الأرض. فالبعض قسم الحب الى ثمانية أقسام و
البعض الى أكثر او أقل.

‎الحب عاطفة جياشة يشترك فيها جميع البشر بدوافع مختلفة و بمظاهر متفاوتة فهي تمثل قاعدة تنطلق منها الكثير من مشاعر الإنسان و أحاسيسه و تشحذ إرادته للإقتداء بمن يحب. و مع ذلك فالحب يتلون بالثقافة التي يعيش فيها الفرد.

فالحب لدى المفكرين الغربيين المحدثين كروبرت ستيرنبرغ يتمثل في مثلث الحب برؤوسه الثلاثة المتمثلة في:١)الألفة أي الإعجاب،
٢) الشغف أي الإعجاب الشديد،
٣) الإلتزام او الإرتباط. فالألفة مثلا تكون مع الأصدقاء و الشغف و العشق مع الزوجة و الإلتزام و الإرتباط يكون مع العائلة و الأبناء و غيرهم. و هكذا تمثل الأضلاع الثلاثة مستويات مختلفة من هذه العناصر الثلاثة. و يعتبر ستيرنبرغ أن الحب الحقيقي هو مايجمع بين العناصر الثلاثة من الإعجاب و العشق و الإرتباط .

اما هيلين فيشر عالمة الإنسان و الانثربولوجيا الأمريكية فتقسم الحب الى حب جنسي شهواني حيواني ذو مستوى عال من هرمون التستوستيرون و حب رومانسي يتعدى الغريزة الى المشاعر و الأحاسيس يتمثل بمستوى عال من هرمون الدوبامين و حب إلتزامي يصبغ حياة العائلة تغلب عليه السكينة و الهدوء و يتمثل بمستوى عال من هرمون الأوكسيتوسين. و قد درست مستوى الهرمونات و دماغ الانسان للكثير من المحبين فقسمت أصناف البشر الى:
مكتشفين و بناة و مدراء ومفاوضين.

و يتبين بشكل واضح غلبة الثقافة المادية و الحرية الفردية التي تطبع نظريات هذين المفكرين وخاصة هيلين فيشر. و
لنا أن نتساءل أين موقع الأصناف التالية من الحب في رأي المفكرين المذكورين:
حب الإنسان للمبادئ و القيم، حب الإنسان لشخصيات تاريخية لم يعش معها او يألفها و لكنه عشقها وذاب فيها، حب الإنسان لشخصيات معاصرة ذات مواقف خالدة، حب الإنسان لمن أحسن اليه و أكرمه، حب الأنسان للحيوان و الطبيعة، حب الإنسان لليتامى و المحتاجين و المعاقين ، و حب الإنسان للخالق و جماله. قد يقول البعض ان ستيرنبرغ شمل هذه الأنواع تحت عنوان الألفة (intimacy). و الواضح ان الألفة تعني القرب من الأحياء الماديين الذين يعيش معهم الإنسان. و تذهب هيلين فيشر بعيدا فلا مانع لديها أن يكون الإنسان في حب حيواني مع شخص و حب رومانسي مع آخر و حب إرتباطي مع شخص آخر، و هي ترى ان الحياة بين شخصين مدة طويلة قبل الزواج تساعد في فهم الطرفين لبعضهما و تضمن لهما زواجا اكثر استقرارا بعد ان يقررا ذلك. و مع ذلك فهي تقر بأن الزواج المنظم اي غير المسبوق بعلاقات غرامية يكتب له النجاح في الكثير من الثقافات و لايعني الفشل. و ليتها لم تغفل أن المجتمع يحتاج الى الأسر الثابتة المستقرة و الأسر تحتاج الى أفراد مستقرين عاطفيا و ليس الى أفراد يجمعهم سقف واحد و لكن بقلوب تتطاير يمينا و يسارا لتلهث وراء جمال حسي يتفاوت من شخص الى آخر.

اما الحب في الثقافة الدينية و الشرقية فهو الميل و الإنجذاب الى الجمال و الكمال. و هذا الجمال جمال حسي و جمال معنوي يشتركان في المحبوب فلا يرى المحب لون البشرة او طول القامة او رشاقة الجسم او حلاوة المحيا الا مع جمال الروح و الأخلاق . و هو ينظر الى كل جمال فيحبه، فكما يحب جمال الشكل و المنظر فهو يحب جمال الإحسان و جمال العطاء سواء تاريخيا او حديثا و جمال الطبيعة و جمال القيم والمبادئ و جمال الإيثار بل يراها لأنها كلها تعبر عن جمال الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه. و هذا مايفسر لنا كيف يحب الإنسان شخصا قبيح الشكل و لكنه جميل الأخلاق و يكره شخصا آخر جميل الشكل ولكنه قبيح الأخلاق. فكل حب لجمال و كمال ينطلق من الحب الأعظم وهو حب الإنسان لخالق الجمال و الكمال. و هذا الحب حين يستولي على الإنسان يصبغ حياته و يذيب فؤاده هياما في الخالق و خلقه فهو المنعم و الكريم و الجميل و الرحيم و الحكيم و العليم و المشافي و الموفق و كما قيل في الشعر:

أحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوىٰ

وحُبْــاً لأنَكَ أهْـل ٌ لـِذَاك

فأما الذي هُوَ حُبُ الهَوىٰ

فَشُغْلِي بذِكْرِكَ عَمَنْ سـِواكْ

وامّـا الذي أنْتَ أهلٌ لَهُ

فَلَسْتُ أرىٰ الكَوْنِ حَتىٰ أراكْ

ومن نعم الخالق و جماله أن خلق لنا من أنفسنا أزواجا نتكامل معها فننجب الأجيال و نبني الحضارات بنفوس مستقرة تسكن في أحضان دافئة تظللها العفة و الوقار: (هو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها و جعل بينكم مودة و رحمة).

إن هذا الحب يتربع في قلوب المحبين فيبصرون بعين الحبيب و يحبون لحب الحبيب و يحترقون بنار الحبيب فلايزيدهم إلا شوقا و عشقا وهياما. فهم يدعون مخلصين: ( فَهَبْني يا اِلـهى وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ اِلى كَرامَتِكَ).
و يناجون محبوبهم صادقين: ( اِلـهي اِنْ اَخَذْتَني بِجُرْمي اَخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ، وَاِنْ اَخَذْتَني بِذُنُوبي اَخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ، وَاِنْ اَدْخَلْتَني النّارَ اَعْلَمْتُ اَهْلَها اَنّي اُحِبُّكَ).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى