أقلام

الاختباء في الشقوق ..

زهراء موسى

إذا كنتِ ممّن يظنون أن معرفة الله تطلَب في بطون المجلدات، وأن الأتقياء هم رجال الدين، فستغيّرين رأيكِ مثلي إذا نظرتِ أبعد من أنفك.

فمنذ عرفتُ هذا الإنسان آمنتُ بأن الآلهة تعيش معنا على الأرض، تسكن في الشقوق المهملة الرطبة بعيداً عن الأضواء.

إنه يرخي شعره مثل الفلاسفة، وملابسه التي يصفها الآخرون بالرثّة أراها مثل أردية آلهة الأولمب وملائكة الرسامين الإيرانيين.

تخيلي لو لم يكن مدخّنا شرها، كيف كانت ستكتمل صورة الحكيم الذي ينفث همومه على شكل دخان.

أنتِ تريني ساذجة، لكن ماذا عن أبي الذي وثق به وسمح لي بالذهاب إلى بيته ليشرح لي مادّة الفيزياء.

ماذا عن زوجته التي تتركنا بمفردنا دائماً، وتغادر البيت أحياناً لبعض شؤونها واثقة كلّ الثقة من استقامته.

أنا متأكّدة أنه ليس رجلاً عاديّا، ليس مخلوقاً من طين مثلنا، ربّما هو منحوت من رخام، أو مسبوك من معدن هبط من الفضاء.

انفعالاته لا تشبه انفعالاتنا، لا شيء يثير اهتمامه، وإن كان يهتمّ فهذا لا يظهر عليه البتّة. لم يضحك ولا مرّة على نكاتي التي أنتقيها له بعناية، لكنه أيضا لا يزجرني ولا يشعرني بتفاهتي، يبقى صامتاً يتأمّلني وشبح ابتسامة ألمحها تختبئ خلف ستائر ملامحه الجادّة.

لكنه يبتسم أحيانا، ويضحك ضحكة قصيرة جدا إذا أجبتُ إجابة غبيّة تكشف أن تعبه معي غير مجد، وحين يبتسم ابتسامته الصافية تلك أعبُر أنا حالات المادّة الثلاث خلال ٣ ثوان.

الجمعة عندما صادفناه مع زوجته في المول، راقبتُه كيف يسير متوحّدا مع أفكاره، وكيف يطيل النظر داخل فنجان قهوته، وينظر أحيانا في وجه زوجته، لم يكن يلتفت إلى أيّ امرأة غيرها.

لا أعرف كيف لا ترون مثلي أنه قدّيس حقيقيّ، أنتِ وزينب ونورة هزئتم بي لأني كنتُ أراقبه طوال الوقت، ضحكتم على رداءة ذوقي، وقلتم أنه أكبر سنّا ممّا تخيّلتم، وأنه رثّ الهيئة.

أنا متأكّدة أنه بنظرة واحدة نفذ إلى داخل ضمائركم ورأى أفكاركم المخجلة، لكنه يقابل إساءتكم بالإحسان. شعرتُ بالحرج اليوم لأنه امتدح أدبكن وتربيتكن، وقال أن بإمكاني دعوة إحداكن معي إذا كانت بحاجة إلى مساعدة في دروسها، الأغلب أنه كان يقصدكِ أنتِ، قال: “صديقتك ذات البشرة البيضاء الناعمة والقوام الممتليء لماذا لا تحضرينها معك”؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى