أقلام

الأبناء و البنات: ثقة و متابعة

 

د/ عبدالجليل الخليفة

رغم أن الكثير من الناس مطمئنون الى معارفهم وأفكارهم، غير أنهم يسعون دائما الى تحقيق المزيد من اليقين عبر الحجة المنطقية و التجربة العملية. هذا ما عرفناه تاريخيا و حاضرا، فقد أنطلق البعض في رحلة منهجية نقلتهم من الشك المفرط الى اليقين القطعي عبر حجة برهانية. و هذه المنهجية قد تكون عبر استنطاق للذات كما فعل العالم الرياضي و الفيلسوف المشهور ديكارت، فقد بدأ منهجه بالشك في صدق ادراكاته الحسية (مثلا: يرى بعينيه القمر صغيرا بينما هو كبير في الواقع)، و عليه لم يعد يصدق ادراكاته الحسية فشك في وجود العالم ثم في وجوده المادي نفسه. و بعد عناء البحث و التفكير و مراجعة الذات، انطلقت به رحلة العودة، فبدأ من يقينه بوجود ذاته الشاكة المفكرة: (أنا أفكر، إذن أنا موجود). و حيث أن نفسه موجودة و لكنها شاكة فهي مخلوق ناقص يحتاج الى خالق كامل لا يعتريه الشك، و هو الله، و هكذا أثبت ديكارت بعدها وجود العالم المادي و منها وجوده الحسي.

ثم جاء ديفيد هيوم رائد الفكر التجريبي ليرمي مبدأ السببية عرض الحائط، فالنار مثلا ليست سببا اضطرادايا ضروريا للحرارة، بل لأننا نرى النار دائما تتبعها الحرارة ، فقد تولد لدينا تداعي للمعاني في أذهاننا بين النار و الحرارة. و هكذا فكل سبب و نتيجة بنينا عليه نظرياتنا العلمية التجريبية ليس سببا و نتيجة كما يرى هيوم بل هو تداعي للمعاني، و هذا سهم يصيب كل العلوم و النظريات التي تقوم على الأسباب و المسببات في مقتل. هذا ما دفع بإيمانويل كانت الى تفجير طاقاته الخلاقة للرد على تشكيك ديفيد هيوم. لقد رأى إيمانويل كانت المفكر الرائع أن عقل الإنسان يملك قوالب ادراكية منها المكان و الزمان و السببية و غيرهم من مقولاته الأثني عشر و هذه تنظم الإدراكات الحسية و تحولها الى فهم متكامل و صورة واقعية للعالم تتناسب و قوالب عقولنا الإدراكية. فعقولنا ترى النار و تحس بالحرارة و تفهم أن هذه الحرارة أتت من هذه النار و أنها سبب لها و ليست تداعي للمعاني. فحيث وجدت النار وجدت الحرارة و هذا قانون طبيعي لا يتخلف.

ثم جاءت مدرسة هيغل الديالكتيكية الفكرية الجدلية، فالعقل ينتقل من الفكرة الى نقيضها سعيا للوصول الى الفكرة المطلقة. و هذا الجدل هو طلب لليقين و إعمال للحجة و البرهان في حوار فكري سواء داخل النفس او خارجها. ثم نقل فيورباخ و إنجلز و ماركس الديالكتيكية الى المادية التاريخية و الاقتصادية في تفسير لصراع الطبقات بناء على تغير وسائل و علاقات الإنتاج.

هكذا تطورت العقلانية في الحضارة الغربية عبر ديكارت و كانت و هيغل و غيرهم بحثا عن اليقين سواء في مسائل الوجود او في نتائج العلوم الطبيعية. و قد جاءت المدرسة النقدية في فرانكفورت لتجمع بين المذهب التجريبي الذي يعتمد الاستقراء التجريبي كما جاء به فرانسيس بيكون و الاستنتاج العقلي المنطقي كما يراه المذهب العقلي. و قد أسست هذه المدرسة النقدية الى حوار يهدف الى مراجعة الحياة الغربية كما نراها في عصرنا الحاضر. فرأى الكثيرون منهم أن العقلانية الغربية بدأت في عصر التنوير ثم في الحداثة كعقل موضوعي أخترع و أكتشف و سخر الطبيعة لخدمة الإنسانية، و لكنه أنحرف تدريجيا بعد الحداثة ليتحول الى عقل أداتي جشع و متوحش يركز على التقنية و يرى الإنسان كأي شيء آخر في هذه الطبيعة، فهو يسعى الى الربحية بعيدا عن قيم الإنسانية. هذا ما يفسر وحشية الحروب العالمية و التنافس الاستعماري المحموم لاقتسام كعكة الدول المستعمرة الفقيرة حتى وقتنا الحاضر عبر الشركات العابرة للقارات و السوق المفتوح.

و قد أنبرى الفيلسوف هابر ماس ليعطي وصفة علاجية لهذا الوضع المأساوي. فبينما يعترف هابر ماس بانحراف العقلانية الغربية الحالية عن مسارها الإنساني، إلا أنه يرى أن الحداثة لا تزال في أول الطريق و أن الحل يكمن في استغلال الفضاء العمومي (الصالونات و المنتديات و المقاهي و الديوانيات) للتواصل و الحوار بين الأطراف المختلفة من أجل الوصول الى حل مقبول من جميع الأطراف. هذا ما يسمى بنظرية الفعل التواصلي، و يشترط هابر ماس لنجاح هذا الحوار ما يلي: صراحة لمتحاورين، صدق و دقة التعبير عن الواقع، عدم العناد و احترام الرأي الآخر. إن الفضاء الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي الذي يعيشه أبناؤنا و بناتنا مثال حي للفضاء العمومي، و لكن هل يا ترى تنجح و صفة هابر ماس لعلاج جشع العقل الأداتي و إحياء العقل الموضوعي، و كيف يمكن التعامل مع المجموعات البشرية المتنافرة و التشويه الدعائي في هذا الفضاء الافتراضي ؟ سأترك الإجابة على هذا السؤال للقارئ الكريم.

المهم أن علينا أن نعي كآباء و أمهات أن الجيل الجديد من أبنائنا و بناتنا، و لله الحمد، قوي و واثق بأفكاره و عواطفه، و مع ذلك فمن المفيد جدا أن نكشف له المزيد من الخلل في الحياة الغربية، و الانحراف من العقل الموضوعي المخترع و الإنساني سابقا الى العقل الأداتي الجشع حاليا. فعقلانية الغرب الآن ليست إنسانية كما تدعي وسائل الدعاية الغربية، بل هي صراع محموم للربحية ولتنميط شخصية الجيل الجديد حسب الوصفة الغربية من الطعام و اللباس و المتعة و الاستهلاك.

يستحق أبناؤنا وبناتنا الكثير من الحوارات العقلانية الشفافة في الأسرة و المجتمع و المدرسة سعيا لفهم ما يدور في خواطرهم و يشغل بالهم. فهناك الكثير من المظاهر التي تغزو المدارس والمجتمعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالمسلسلات الأجنبية و الحوارات مع الغرباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي و الإعجاب بمشاهير من الجنس الآخر و عدم المتابعة من قبل الأهالي قد تغري البعض للسقوط حيث توجد الكثير من الوحوش الكاسرة التي تنتظر تهور و مراهقة البعض لا قدر الله لتسوقهم الى خانة المخدرات و الانحراف الأخلاقي. إننا نحتاج كآباء و أمهات لزرع الثقة بأبنائنا و بناتنا، و في نفس الوقت متابعة أدائهم الدراسي و فتح قلوبنا لما يدور في أذهانهم من أفكار في جلسات عائلية تظللها الرحمة و الحب و الحنان.

أنني على ثقة يا أبناءنا و بناتنا: أنكم جيل العلم و المعرفة و الحكمة و العفة و الشرف و الفضيلة، فلتحققوا لنا الأمل و المستقبل المشرق، حفظكم الله و رعاكم.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جميلة هذه الوقفات المتنوعه. (ستحق أبناؤنا وبناتنا الكثير من الحوارات العقلانية الشفافة في الأسرة و المجتمع و المدرسة سعيا لفهم ما يدور في خواطرهم و يشغل بالهم. فهناك الكثير من المظاهر التي تغزو المدارس والمجتمعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالمسلسلات الأجنبية و الحوارات مع الغرباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي و الإعجاب بمشاهير من الجنس الآخر و عدم المتابعة من قبل الأهالي قد تغري البعض للسقوط حيث توجد الكثير من الوحوش الكاسرة التي تنتظر تهور و مراهقة البعض لا قدر الله لتسوقهم الى خانة المخدرات و الانحراف الأخلاقي.

    عزيزي, بارك الله في هذه الجهود الطيبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى