أقلام

كورونا والدعاء في الشعر

 

لم يكن الدعاء يوما من الأيام كلام لغو ولاحديث باطل، بل إن الأدعية كنوز فيها من روعة البيان، وجمال البلاغة واللغة والحكمة والعظة، وتعدد المعارف ومن الفلسفة ما تقف الألباب عندها حائرة. وفوق كل ذلك فالدعاء هو الصلة والواسطة بين العبد وبين الله. ولم يقتصر أسلوب وأدب الدعاء عند المسلمين على الكلام سواء ما جاء من آيات القرآن الكريم أو أدعية الأئمة وصحابة النبي “ص”، بل حتى الشعراء ضمنوا شعرهم الدعاء مذ وجد وهُـلْـهـِلَ به وصار هذا ديدنهم حتى يومنا هذا، وكان للشعراء نصيب كلما حدثت حادثة أو ألمت ملمة أو نزلت جائحة بالمؤمنين والمسلمين إلا وضجوا إلى الباري سبحانه وتعالى متوسلين إليه بأحب الأمكنة والأزمنة والخلق إليه ليدفع السوء والبلاء عنهم. فلربما عجلت الإجابة لهم ولربما أخرت ليكون ذلك أعظم ثوابا وأجرا لهم، ولربما منعت وذلك لمصلحة يراها الله سبحانه وتعالى.
ولكن أين نحن الآن وقد منعنا هذا الوباء من ورود دور العبادة والصلاة والدعاء فيها؟ ولماذا يدعوا المؤمنون والمسلمون فلا يستجاب لهم؟ أليس فينا أحد يحبه الرحمن؟.
أما فيكم أحد يحبه الرحمــن؟

قال ثابت البناني: كنت حاجاً مع جماعة من عباد البصرة، فلما دخلنا مكة رأينا الماء ضيِّـقاً، وقد اشتدّ بالناس العطش لقلة الغيث. ففزع إلينا أهل مكة والحُجَّاج يسألوننا أن نستسقي لهم، فأتينا الكعبة وطفنا بها ثمَّ سألنا الله خاضعين متضرعين بها فمنعنا الإجابة. فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه، وأقلقته أشجانه، فطاف بالكعبة أشواطاً ثم أقبل علينا فقال:
يا مالك بن دينار، و يا ثابت البناني، و يا أيوب السجستاني، و يا..، و يا..، حتى عـدَّنا وعـدَّ من جلس معنا، فقلنا لبيك وسعديك يا فتى. فقال: أما فيكم أحد يحبه الرحمــن؟
فقلنا: يا فتى، علينا الدعاء وعليه الإجابة، فقال: أبعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه، ثم أتى الكعبة فخرَّ ساجداً فسمعته يقول في سجوده: سيدي، بحبك لي إلا سقيتهم الغيث.
قال ثابت: فما استتم كلامه حتى أتاههم الغيث كأفواه القرب.
قال مالك بن دينار: فقلت: يا فتى من أين علمت أنه يحبك؟
قال: لو لم يحبني لم يستزرني ” أي سأله أن يزوره”، فلما استزارني علمت أنه يحبني، فسألته فأجابني، ثم ذهب عنا وأنشأ يقول:

من عـرف الرب فـلـم تـغــنه
مـعـرفـة الـرب فـذاك الـشـقي

ما ضـر في الـطاعة ما نـالـه
فـي طـاعــة الله ومـاذا لــقـي

ما يصنع الـعبـد بـغـيـر التـقى
والـعـز كل الـعــز للـمـتــقـي

فقال مالك: يا أهل مكة من هذا الفتى؟ قالوا: علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب ” عليهم السلام”.

ما سر كون رجل مثل علي “ع ” كله إيمان!.

من أين تأتي كل ذي النغمات
وإن تـكـن مـن حـلـق عـبـد الله

لا شك أنه يوجد في هذه الخليقة من هو محبوب للرحمن ولكن ربما لم يؤذن له بعد بالدعاء، أو أنه دعى ولكن لم يحن وقت الإجابة. ونحن لسنا ممن يقول بترك الأسباب واللجوء إلى الدعاء فقط، بل هما خطان متوازيان ومتلازمان وليسا متقاطعان ومتعارضان، فالدعاء يعجل بالتوفيق في وجود الدواء سواء على أيدي المسلمين أو غير المسلمين مع الأخذ بالأسباب من البحث، وتوفير كل الوسائل لإنجاح ذلك، ولا تعارض هنا في هذا الشأن. ولكن علينا بالصدق مع الله سبحانه.

فيا عبدالله الذي كلك إيمان هلا سألت الرحمن بحبه لك إلا فرج هذه الكربة عن أهل هذه الأرض؟

نكتة بلاغية:

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، إنه أروع بيان وأحسنه لما اشتمل عليه من المضمون وأدق أسلوب وأجمله، فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية بأمر الدعاء، ثم قوله {عِبَادِي} ولم يقل (الناس) وما أشبهه يزيد في هذه العناية، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال: {فإني قريب}، ولم يقل: (فقل إني قريب) ثم التأكيد بـ (إن)، ثم الإتيان بالصفة دون الفعل الدال على الثبوت والدوام ليدل على ثبوت القرب ودوامه، ثم الدلالة على تجدد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليها، ثم تقييده الجواب أعني قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} بقوله {إِذَا دَعَانِ}، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيد به شيئاً بل هو عينه، فإن فيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
فهذه سبع نكات أسلوبية بلاغية في الآية تنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها على إيجازها ضمير المتكلم سبع مرات، وهو نمط آخر من أنماط الأسلوب البلاغي المؤثر.

نعم لقد كان للشعراء صولة في هذا الميدان، ميدان الدعاء فانبرى الشعراء كل بما جادت به قريحته:
فها هو الشاعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي:

ما ذا دهاك كـورونا” أنت مـخــتــبـىء
عـن أعــيـن لم تــزل تــبكـي بـواكـيها

حـجــبــت كـل حـبـيـب عـن أحــبّــتــه
فــما تُـصـافـــح كــفٌ مــن يُـحــيّــيـها

حــرمْــتــهـم مـن لــقــاءاتٍ مُـحـَـبَّــبــةٍ فـلم يــعــدْ يــجـمعْ الــقـرْبى تــلاقــيها

من أنت كيف اقتحمت الأرض قـاطـبـةً
حـتى سـرى مـنـك رعـب في نواحيها

أما خـشيـت الـقـوى الكـبـرى وما ملكت
مـن الـعـتـاد وما ضـمـت صـياصـيها

أصـبـحــت قـوة زحــف لا نـظـيـر لـهـا
بـيـن الـعـبــاد فـلا شـيء يــجـاريــهـا

كل الـعـتـاد الـذي في الأرض لـيـس لــه
مـعـنىً أمـامــك بـاع الـحرب شاريها

الـنـاس تــصـرخ “كـورنا” وأنـــت بـِـلا
خــوف تـهـاجـمـها، تـغـشى نـواديــها

مـن أنــت؟ قـال أنـا مـن جـنــد خـالـقـنـا
قضى فأمضى وأعطى القوس باريها

خــذوا بأســبـــاب دنـيـاكم ولا تـــقـــفــوا وقــوف مـضـطــرب، فــالله حـاميها

كــرِّي وفـــرِّي بـأمــر الله وهــو بــكـــم
أدرى ويــعـلــم ما تـُــخــفي خــوافــيـهـا

مــدوا الــيـه أيــادي الــمـخــبـتـــيـن لـــه واسـتـمـطروا رحمـة ً تجري سواقـيها

فـــروا إلى الله مـني واطــلـبــوا فـــرجــا
فــالله مـالـك دنـيــاكـم ومــن فـــيــها

ولم يغب هذا المعنى عن خنساء الأحساء رباب النمر فراحت ترفع كف التضرع:
فــاســــأل الله فِـــــكـاكــــاً
مــن عـــدّو قـــد تــنـمّـر

وانـــتـصـر لـلــنــفـس لـما
تــحــتـويـها ضـد مُــنكر

إنـها كــنــزٌ ثــــمــيــنٌ لــيس للــتـفــريــطِ يُـــذكــر

ولها أيـضا:
دعــوتُ الله يــحـمــيـــنـا
مـن الــمـدعـوّ (كــورونا )

ويُـنـجي الــنـاس مـن ألـمٍ
تــقـلّـب بــيـن أيـــديـــنــا!

وترنم بدعاء الشعر آخر متوسلا بحبيبه المصطفى محمد ” ص “:
إني تحصنت بصاد الصمد والحاء والميمـين من محمـد

بجـسد النبي عـاف جسـدي
من كل ما يطول سوء الأبـد

الله حــي صــمــد وبــاقــي
ســبحـانـه ذو كـنـف وواقي

ونـحـن في كــنـفـه الـمـنيع
مـن كل شـر وأذى شــنـيـع

مسـتشـفعين بالغياث أحـمـد
غوث الورى مؤخرا ومبتدا

من قـالها في زمـن الــوباء
أمــنــه الله مــن الـــبــلاء

وها هو شاعر الأحساء الكبير جاسم الصحيح يتغنى ويقول مهما كشر كورونا عن أنيابه وتوعد فإن هناك أمل بولادة جديدة للأرض:
كورونا والشعر

نـصارع حـولنا شـبحًـا تـنـاهى
عُـتُــوًّا، وَهْـوَ في عُـمـرِ الـولـيـدِ

تـطـلّ الشـمـس مُعـتِـمَـةً فـنحـيا
بــمـشـكاةٍ مـن الأمــل الــرشـيـدِ

فـهــذا الـمـطلـقُ اللـيـليّ مـهــما
طـغـى طـغــيانَ جـبّــارٍ عــنــيدِ

ومـهـما حــدَّ أنـــيـابَ الــمنـايــا
وشَــرَّعَــها عـلى لــغــة الـوعيدِ

سنـبـقـى فـي خــنـادقـــنا نـغــنِّي
بـأنّ الأرض تــولــد مـن جـديـدِ

أما دكتورنا وشاعرنا السيد عادل الحسين فهو أيضا يرفع يديه متضرعا وقد تحسر على إغلاق المساجد:

هَـذَا الَّـذِي يـُدْعَى وَبَـاءٌ غَــدَا
فِـي كُــلِّ زَاوِيَـــةٍ مِــنَ الْـــمَوْرِدِ

قَــالُوا أَ كُــورُونَا يُخـِيــفُــكُمُ
أَنْ تَسْـأَلُـوهُ اللُّـطْفَ فِي الْمـَسْجِـد!ِ

قـُــلْــنَا أَلَا تَـكـْـفِـي مَنَـازِلُــنَا
أَنْ نَـسـْأَلَ الـْـبَارِي بِـرَفْــعِ الْــيَـدِ؟

ولم يقتصر دعاؤه لأهله ومصره بل دعى لجميع الأمصار:

قَدْ زَادَ ضُرُّ النَّاسِ فِي حَرَجٍ
مِنْ جَوْرِ كُورُونَا عَلَى الْـبَشَرِ

الْكــُلُّ يَحْـمِـي الْأَهْلَ مُـجْـتَهِـدًا
مِنْ شَــرِّ جُـرْمٍ قَـاتِلٍ خَـطِرِ

يَا رَبِّ يَا مـَنْ عِــنْـدَهُ فَـرْجٌ
فَـرِّجْ عَـنِ الْأَمْصَارِ مِنْ ضَرَرِ

يَا سَـيِّدـِي خَلِّـصْ عِبَادَكَ مِنْ
إِجْـرَامِ كُورُونَا وَمِـنْ حَــجَــرِ

سَــدِّدْ إِلَهِي كُلَّ مَنْ حَـارَبَ الْــفَيْرُوسَ كَيْ يَبـْقَى عَلَى ظَفَرِ

أما الشاعرة ندى الأحمد فدعت للمؤمنين ودعتهم ليضجوا إلى الله بالدعاء:

فَـرِّج – حَماكَ اللهُ- كَربَ جَـماعَتي
طَهِّر بِـقـاعَ المؤمنينَ بِصحّةِ

فَمتَى لقاهَا الضّيرُ من كورونِها
وَرمَى الـقـلوبَ بذُعرِهِ في لَمحَةِ

فــضَجيجُ دَعوِكَ غايةٌ لا تنتهي
سَـربِل أمَـانًا فائِـضًا مِن رَحـمـةِ

وأما الشاعر ميرزا يوسف الشيخ فإنه رفع يديه إلى الله متوسلا بوليه أبي الحسن في يوم مولده:

أجـيـنا بـشـوق إلـك يا حـيدر الـكرار
مـتــعـنـيـن ها لـلـيـلة ونـدق بـابــك

لـمـن ردنا نـعــرف مـولـدك مـولاي
بـيــت الله بــتـسـم بالـفرح من جـابـك

الكـورونا أجت يم حضرتك هيهات
(عن يا مرض نحچي ومنها الصابك)

مــديـت الـچـفـوف ويا عـلي نـاديـت
يــا مــولاي ابــد مـا خــاب طــلابــك

أما الشاعر هاني الحسن فقد شبه هيامه بطيف المحبوب كداء أصابه بفيروس كورونا فأمسى مبتلى ومن ذاك الذي سيجازيه:

هَـلْ يَا تُـرَى يُـعْـطـُونَ طَـيْـفَـكِ مِنْهُمُ
مُــخُــالــفـةً مِـنْ بَـعْــد ِمَا بِـيْ تَــجَــوَّلا

وَمَنْ ذَا يُجَـازِي دَاءَ عِـشْـقٍ أَصَابَـنِي كَـفَـيْرُوسِ كُـورُونا فَأَمْـسَـيْـتُ مُـبْـتَـلَى

وفي قصيدة أتى داء كورونا لعلي السليمان داعيا الله بالعون ومطالبا بالوقاية منه:

أتى داء كورونا ليفترس الورى
وينشب في أظفاره الحر والعبدا

هو الداء لا يخشى من الناس سطوة
ولا يستحي إن أوغلت كفه حصدا

إلى أن يقول:
فلا تـسـتهـيـنوا بالــوقـايـة إن عــدت سـيـوف الـمـنايـا في مـواطـنـنا حـشـدا

ومـن لـم يـوق الــنـفس مـن وثـبـاتـه
يـجـد جـسـمه يـغــدو لأسـقـامـه مـهــدا

فــيـا رب كـن عــونا لـنا ومـسـانـــدا
فـلــيس لـنا سـيـب فـضـلك من مـعدى

لـنـجـتـاز أعــبـاء الـكوارث والـردى
ونـعـبر عـصـف الـعـاديات إذا اشـتـدا

لك الـحمد في يـسر الأمور وعسرها
إذا أريد سـيـل الـحـادثات أو اسـتعدى

وهذا عبد الباري الأنصاري في قصيدته ” الوباء الخفي ” كورونا سائلا المولى دفع البلاء:

مصاب الناس من هـذا الـكــرونا
مـصـاب عـز فـيـهم أن يــهــونا

فـهـذا الـغـرب مـفـزوع مـخـوف
وهـذا الـصيـن قـد لاقى الـمنونا

إلى أن يقول:
فـهـذا فـيـروس بالـعـيـن يـخـفى
ولا يـبــدو لأقــوى الـنـاظـريــنـا

فــعـودوا قـــومــنا لله وادعـــوا

بإخــلاص لـه مــتـضــرعـــيـنــا

ومـن كـل الــذنوب – إذا أردنــا
زوالا للــوبـا – تــسـتـغــفـــرونا

وإن الله يـــســـمـع مـن دعـــاه
دعـاء الــتـائـبــيـن الـمـخـلـصـيــنا

فــنــدعـو ربــنـا بــجـلاء كرب
يــحـول عـن الـمسـاجـد ما بـقـينا

وأخــذ الــناس بالأســباب عـقل
وتـرك الـعــقـل فـعـل الـجـاهــلينا

وأخــذ بالـنــصائـح من خــبـيـر
أخي نــصـح سـبـيـل الـعـاقـلـيــنا

سيـكـشف ذا الـوبا إن شاء ربي
ولـكـن لا تـكــونــوا قــانـطــيــنـا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى