أقلام

من الخارج إلى الداخل

منى البقشي

يوم أمس لايشبه اليوم، أهدأها شوارعًا وأكثرها ضجيجًا في المنازل، حركة الأطفال ولعبهم لم تتوقف مثل بقية بعض الأعمال والنشاطات ،هذه الجائحة منعت خروجَ الناسِ إلى الشوارع طوال اليوم، حظر التجوال نصيب الجميع إلا للضرورة.
مشاهد اللعب للأطفال باتت جزءاً من الحركة في المنزل، والأصوات لاتشكل إزعاجًا للأهل، حتى الكبار تاقت نفوسهم للعب مع أبناءهم وملء فراغهم، يتقاسمون رغيف الوقت الفضفاض الممل.

اقترب الأباء من أبنائهم فلم يعد ارتياد الملاهي الخارجية تحقيقًا لوعد الأب لابنه، أوتلبية لرغبتة الطفل لتشتيت ضجره ،المنزل حاضنة للألعاب المبتكرة كما أن الألعاب المعلبة في الأجهزة لها حصة الأسد في اختطاف الوقت، فنرى ألعاب الملاهي خفتت أصواتها وانطفأت أضوءها وتنصلت عن وظيفتها الموكلة بها، لم يعد هناك امتزاجٌ بين صوت اللعبة وضحك الأطفال وسط الحدائق المهجورة، أمواج البحر تطرب النوارس ومن يحرسها منعاً للتجوال والتجمع، فالشواطئ تنعى مرتاديها، والملامح الملونة باتت باهتة لاتسري الحياة في الخارج سوى البيوت ينعشها ساكنيها، الحجر رسم خطوط التحركات في أروقة المنازل منها من اخترع مقهى لقراءة كتاب، أو تحريك الأقلام لتوثيق الصورة التي ستسجل كحدث في بطن التاريخ، فمارس البعض نفض الغبار العالق على هواياته المعطلة منذ زمن بسبب الانشغالات.
فتحولت زوايا المنزل لمحاجر متنوعة بين أداء أعمال لمكاتب خاصة تعلقت، أو لجهات حكومية تحتّم إغلاقها، الحماية من الفايروس مسؤلية الجميع فتقليل التجمع داهم الكثير من الأعمال، والحركة المجتمعية إلا من يحتاج لمباشرتها داخل العمل نفسه برقابة الدولة، أجهزة المستشفى
وطاقمها المقدام هم الوحيدون المتصدون للعمل على مدار اليوم دون هوادة، المطهرات والمعقمات فاحت رائحتها بين تفاصيل المراكز الطبية، ملامح الأطباء اختفت خلف الكمامات والملابس الواقية. عيونهم شابحة تستجدي لحظات الغفوة ووصال الأهل.
الأسرة شحيحة لا تحامل إعداد زائريها ، فاستدعى الأمر استعارة أماكن لاستقبال الإعداد المتفاقمة في منحنى الإعداد النشطة.
الأفراد أبدعوا وابتدعوا واكتشفوا الضائع من أشيائهم ولملمو الشمل الأسري فليس مهرب من المنازل إلا الهروب من الوباء والمخالفات التي أرهقت جيوب من لم يصدق القوانين الصارمة.

وسائل التواصل تتزاحم فيها صور وفديوهات الوقاية لحد سريان الوسواس في النفوس جراء التحذير والاحترازات الوقائية. القفازات والتعقيمات شحيحة من أرفف الصيدليات والمحلات، المطبخ حمي وطيسها، والأطباق تنوعت كبدئل عن المطاعم المغلقة. ومن جانب آخر احترازاً من العدوى، ومواقع الشراء الأون لاين العين الساهرة لتلبية الطلبات المتخمة.
تكثفت الاعتكافات على الأجهزة للصغير والكبير، فالوقت فيه متسع يحتاج لتضيقه وإشغال ثقوبه.
كل هذا النشاط جاء بعد استهلاك الضحك والنكات التي نُسجت قبل أن تزحف مناطقهم ويتربع الخوف في القلوب -الجدية قرعت طبولها-. فالتجمعات وصلة الرحم وتذاكر شريط الذكريات لمّعها الحجر فالجميع يتواصل تقنيًا وكأن العالم مسافرٌ يتنفس أهله وجيرانه وأصدقاءه خلف الشاشة، فهي رئة العالم الذي اقتطعها وباء كورونا. تفعلت المآذن في البيوت وارتفع الدعاء وديرت المسبحة تحصينًا واستجداء النجاة للخلاص من الوباء والقرآن المهجور تمت زيارة صفحاته.
الأم والأب تساوا في التواجد بين أبناءهم، وتشاطرا الأعمال فنجد من يبادر لمساعدة زوجته ولربما ليشتت ملله الذي تلبسه.
البطولات التي تقوم بها الزوجة انكشفت تفاصيلها عن قرب فالزوج ملازم لها، ورأى كوبها الممتلئ الذي لطالما ينقده بالتقصير.
الليل والنهار يتعاقبان بسرعة فلم يعد للنهار معاشًا ولا الليل سباتًا، فالبعض يسأل أي يوم نعيشه، اختلطت أسماء الأيام بين الإشراق والغروب فصار النظر إلى أرقام الإصابات والمتعافين أكثر من النظر للساعة التي تمشي عقاربها بلا كلل دون مراقبة.
رتابة الكل يسأل متى ستنكسر حواجزها؟ ومتى تحيا الحياة النائمة فمفاصلها لا تتحرك إلا بالتحرز بالكمام والقفاز ورائحة التعقيم المستمر ليهدأ القلب المضطرب.السؤال الذي يدور رحاه بلا كلل ” متى نعود من الداخل إلى الخارج” ولو عدنا هل ستبقى نسختنا الجديدة التي في الداخل؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رائعة ومتألقه الأستاذة منى البقشي
    لقد سلطتي الضوء بدقة وقربتيها للقواقع بعدسة قلمك المخلص
    الى الأمام استاذتنا الغاليه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى