أقلام

بين قميصين

إبراهيم سلمان بوخمسين

إن ارتباط الإنسان بما يحيط به جبلة جبل عليها منذ نشأته، فأثر فيه وتأثر به، حتى لباسه الذي هو ألصق شيء بجسده وبدنه. بل إن هذا الأخير ذهب مضرباً للأمثال وشكّل انعطافات خطيرة وكبيرة في حياة المجتمعات والأمم.
وكمثال على ذلك ” القميص” الذي يستخدم لإثبات واقعة ما أو دفع شبهة أو إزالة بلية أو إيثار فتنة ما.
وكمثال آخر “الباب” وما أدراك ما الباب وارتباطه بحياة الأمة، والواقع ما القميص والباب إلا رموزٌ ترتبط بصاحب القضية وما يحمله من موقع في حياة المجتمعات.
فعندما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: باب فاطمة بابي وحجابها حجابي، فهو لا يعني ذلك الباب الخشبي وإنما أراد أن يقول إن طريق هداية الأمة يمر عبر هذه السيدة الطاهرة. كذلك فعل رسول الله بسد الأبواب كلها إلا باب علي. فهو لم يوصد باب خشب ويفتح باب خشب، وإنما أراد أن يقول للأمة إن طريق الهداية يمرعن طريق علي عليه السلام، ولذلك رأيناه يقول: يا عمار إن رأيت عليا قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس. هذا هو المقصود بالباب، ولا أريد أن أفصل في هذا الموضوع فله بحث آخر لعلنا نتطرق إليه.
عودا على بدء، فحديث القميص حديث شائك وشائق في نفس الوقت. فقد وردت لفظة القميص في ست آيات كلها في سورة يوسف عليه السلام وما ارتبط به من أحداث، بخلاف الألبسة الأخرى فإنها وردت في سور متفرقة من القرآن الكريم.
وللقميص معانٍ عدة فمنها مادي ومنها معنوي، ومما ورد من معانيه في معاجم اللغة اخترنا لكم من هذا المعجم وهو قاموس الغني.
1- قَمِيصٌ، قُمْصَانٌ. (يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ)
1:- قَمِيصٌ أَبْيَضُ :- لِبَاسٌ لَهُ كُمَّانِ طَوِيلاَنِ أَوْ قَصِيرَانِ، يُرْتَدَى تَحْتَ السُّتْرَةِ وَبِغَيْرِهَا.
2:- قَمِيصُ الصَّبَاحِ :- خَيْطُهُ الأَبْيَضُ. :- تَسْتَيْقِظُ صَبَاحاً قَبْلَ أَنْ يَنْشُرَ الفَجْرُ قَمِيصَهُ الأَبْيَضَ.

2- تَقَمَّصَ
(ق م ص). (فعل: خماسي لازم متعد بحرف). تَقَمَّصْتُ، أَتَقَمَّصُ، تَقَمَّصْ، مصدر تَقَمُّصٌ.
1:- تَقَمَّصَ قَميصاً جَديداً :- : لَبِسه، تَقَمَّصَ فِي الْمَاءِ :- اِنْغَمَسَ فيهِ.
3:- تَقَمَّصَ الْمُمَثِّلُ شَخْصِيَّةَ الشَّيْخِ :- : تَمَثَّلَها وَأَحْسَنَ أَداءَها.
4:- تَقَمَّصَتِ الرُّوحُ :- اِنْتَقَلَتْ مِنْ جَسَدٍ إلى جَسَدٍ آخَرَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَسَبَ ما تَعْتَقِدُهُ بَعْضُ الْمَذاهِبِ.
3- قَمَّصَ
(ق م ص). (فعل: رباعي متعد). قَمَّصْتُ، أُقَمِّصُ، قَمِّصْ، مصدر تَقْمِيصٌ
1:- قَمَّصَ الثَّوْبَ :- قَطَعَ مِنْهُ قَمِيصاً
2:- قَمَّصَ الْوَلَدَ :- أَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ

على أن أشهر قميصين مرا على تاريخنا هما قميص نبي الله يوسف وقميص عثمان… هناك من يريد أن يرفع قميصاً آخر بين فينة وأخرى ليشق عصاة الأمة ووحدتها.
يا ترى ما كان من خبر قميص يوسف؟ الذي صار مضربا للأمثال في التهمة والعفة والتقوى ومادة تغني بها الأدباء والشعراء. إن السر يكمن في وجدانية النفوس والبعد الملكوتي لشخصية يوسف وإلا ما قيمة هذه القطعة من القماش التي يرتديها كلنا.

قالوا لقميص يوسف ثلاث حالات:
الأولى- إثبات حادثة، عندما جاءوا به ملطخاً بدم يوسف الكذب، الذي لم ينجُ منه حتى الذئب “وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ”. فرمزية القميص هنا دلالة على الكذب ووجدانية نفوس أخوة يوسف.

وفي “قمصان يوسف” لشوقي بزيغ:

” فهذا الزمانُ الذي برَّأ الذئبَ
من شبهةِ الدمِ
فوقَ قميصكَ
ليسَ زمانكْ،
وهذا الحصانُ الذي لم تخنْ
برقَهُ المتردد
خانكْ
وإخوتكَ اتحدوا مع قميصكَ
ضدَ دموعِ أبيك

ولبعضهم:

قميص شوقيَ قد أدمى جوانِبَهُ ** بُعْدٌ، وما كان ظني فيه مكذوبا
وريح يوسف لا تأتي نـسائمُها ** إلاَّ لـقـلـبٍ هــواهُ كان يـعـقـوبا

ولجمال حمدان:
قَالُوْا: تَرَكْنَاهُ وَرُحْنَا ( نَسْتَبِقْ) ** لَكِنَّ ذِئْباً غَادِراً وَافَاهُ
– أما الحالة الثانية فبراءة متهم. ” وإن كان قميصه قُـدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين”. القميص كان هو الدليل هنا، طبعاً مع شهادة الشاهد من أهل الجاني. فجاءت رمزيته في كذب طرف وصدق طرف آخر وبيان وجدانية نفس كل طرف.
قال جمال حمدان:
فَــتَـسَـابَـقَا لِلـْبَابِ يَـطْـلُـبُ مَـخْــرَجَاً ** وَقَــمِـيْــصَهُ الـمـقْـدُوْدَ قَـدْ خَـلاَّهُ
قَالَ اْنـظُرُوْا مَا بِالـقَـمِـيْـصِ لِتَعْلَمُوْا ** مَنْ ذَا أَصَابَ الحَـقَّ فيِ دَعْـوَاهُ

الحالة الثالثة: كشف بلاء، ووصل الأحبة ” اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم”. طبعاً لم يكن السر في القميص وإن كان في رواية أنه من قمصان الجنة، ولكن السر يكمن في صاحب القميص وهو النبي يوسف وما انعكس على القميص من روحه الملكوتية ووجدانية نفسه والألطاف الإلهية.
ومن عجيب أسلوب القرآن ذكر القميص ملبوسا كما في الحالة الثانية وفيه دلالة على وجدانية النفوس، وغير ملبوس كما في الحالة الأولى والثالثة وفيه دليل على الفرقة أو الوصال.

وللشاعر الأندلسي ابن سهل في بيت شعر فيه من الوجد ما الله به عليم:
تاقت إليك عجاف أنت يوسفها ** هلا رميت على العميان قمصانا
وقال جمال حمدان:
وَخُـذُوْا الـقَـمِـيْـصَ لِوَالِـدِيْ يَـمْـسَحْ بِـهِ ** عَـيْـنـَيـْهِ يَـرْجِـعُ نُـوْرُهَا بِـضِــيَـاهُ
ألْـــقَـاهُ فَــوْقَ جَـبــِيــْنِـهِ وَمُــسَـــمِّــيـاً ** بِاْسْــمِ الإِلَــهِ.. فَـأَبْـصـَرَتْ عَـيْـنَاهُ

وفي ” قمصان يوسف ” لشوقي بزيغ:
تـدورُ الكواكـبُ من دونِ يـوسـفَ
لا الـبـئرُ عـادتْ بـهِ
مع خـيـولِ الـشـتاءِ
ولا الـريـحُ تـحملُ
نحو أبيـه الذي شـاخَ
وقـعُ خـطــاهُ ..
ولكـنَّ باقــة عـطـرِ
تـهبُ على بـيـتِ يـعـقـوبَ
حاملةً مع قـمـيـص ابـنهِ نـجـمتـينِ اثـنـتـيـن
تـصبان في بـئر عـيـنيهِ ضوءهما المشتـهى
وتـعـيـدانه مـن عـماه.
أما ما جاء في هذا الباب من استخدام القميص في المعاني الأخرى فتبينه هذه الأبيات الشعرية.
فـلـلـمتـنـبي:
كَأنّ كُلّ سُـؤالٍ في مَـسَامِـعـِهِ ** قَـمـيصُ يـوسُفَ في أجـفانِ يَعـقـوبِ
ولأبي العلاء المعري:
سـارَ الشّـبـابُ، فـلم نـعــرفْ له خَبـَراً ** ولا رأيــنا خَـيـالاً مـنـهُ مُـنــتابا
أَلـقى الكَـبيـرُ قَـمـيصَ الشَرخِ رَهـنَ بِلىً ** ثُـمَّ اِسـتَجَـدَّ قَـمـيصَ الـشَيـبِ مُـجـتابا
وقال بن معتوق:
تـَقـَمَّـصْتُ ثَـوباً مِـنْ دُخَـانٍ وَمُهْجَتِي ** عـلـيها قـمـيـصٌ من لـظاكَ تـجـسَّـما

أما قميصنا الثاني فهو قميص عثمان:
في البداية قميص عثمان مثل لكلمة حق يراد بها باطل…و أصلها إنه بعد مقتل الخليفة الثالث…طالب فريق بالثأر لمقتله بالرغم من أنهم كانوا أول المحرضين على قتله ….و رفعوا قميصه المخضب بالدماء أمام الناس في سبيل ذلك، وفي سبيل مصلحتهم الخاصة وحدها، فصار ذلك مضرباً للأمثال.
وما أجمل هذه المقطوعة لنزار قباني: “حين يصير الفكر في مدينة”
حـيـن يـصيـرُ الـفكرُ في مـديـنةٍ
مُـسَطَّـحاً كـحـدوةِ الـحصـانْ ..
مُـدوَّراً كـحـدوةِ الـحصـانْ
وتـسـتـطـيعُ أيُّ بنـدقـيّةٍ يـرفعُها جَبانْ

مـتى سـتـرحـلـونْ ؟
الـمـسرحُ انـهـارَ على رؤوسـِكـمْ ..
مـتى سـتـرحـلـونْ ؟
والـناسُ في الـقـاعـةِ يـشـتـمـونَ .. يـبـصقـونْ
كـانـتْ فـلسطـينُ لـكـمْ ..
دجـاجةً من بـيـضِها الـثمـينِ تـأكـلونْ
كانـتْ فـلسـطـينُ لـكـمْ ..
قـمـيصَ عـثـمانَ الـذي بـهِ تُـتـاجِـرونْ
طـوبى لكـمْ ..
على يـديـكـمْ أصبحـتْ حـدودُنا من وَرَقٍ
فـألـفُ تُـشـكَـرونْ ..
على يـديـكـمْ أصبحـتْ بـلادُنا
إمرأةً مـبـاحةً .. فـألـفُ تُـشكَـرونْ

ويطلع علينا بين الفينة والأخرى من يرفع قميصاً آخر من قمصان الفتنة باستدلاله بـ ” عبدالله بن سبأ” هذه الشخصية الوهمية ليشق بها عصى المسلمين ووحدة الصف واللحمة الوطنية التي دعت لها الدولة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين في مشاريعها كالحوار الوطني وغيره.
قبلة الفتنة التي أراد أن يطبعها على جبين هذا الرجل الروحاني، كان يقول ونحن نقول معه: ونفخر أننا أتباع مذهب أسّسه ـ بأمر الله ـ رسول الله (ص) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) هذا العبد المتحرر من جميع القيود والمكلف بتحرير بني الإنسان من أشكال الأغلال وأنواع الاسترقاق.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى