أقلام

شيخ الفضيلة

الشيخ عبدالجليل البن سعد

ليس العجيب في ان يتميز فقيدنا باسلوبه المتلطف في طلب العلم الشيء الذي يشهد به كل اساتذته فيترك في نفوسهم انطباعا كريما نحو تلميذهم الواعد لا تمحوه السنين، بل العجيب ان كلمة “نشمي والمتنشم” تفسر لغويا ـ فيما تفسر به ـ بالوصف الذي اتصف به الشيخ ابو البهاء يقال: فلان يتنشم العلم أي يتلطف في التماسه! وهذه مفتاح الفضائل التي بدأ الشيخ عبد الحميد بها الصعود الى علياء المحامد.

حياة حالمة وديعة:

هي حياة شخصية كريمة تتميز بالنظام والاهتمام، بعيدة عن الاتكالية، فربما اضطرته الظروف لأن يقيم فترات طويلة أعزبا في دار غربته(قم)، ولكن أول ما يلفت أصدقاءه ممن يدخلون عليه داره هو النظافة الشخصية و المنزلية، فهو يكنس ويمسح بيديه ويظهر الترتيب في كل مقتنياته، لقد كان متأنقا في بساطة ومتجملا في تواضع..

فضيلة الخدمة:

ان الخدمة حالة لا تستنقص ولا تستقل من أي أحد مهما بلغت في العفوية والسذاجة، لا سيما اذا كانت ذات عمومية تستوعب مختلف الشرايح والطبقات الاجتماعية، إلا ان ما يميز الفقيد الغالي هو ميله للخدمة ذات الطابع المؤسساتي أي الخدمة الممنهجة والمقننة، وهذا ما ينبئك عن شخصية إدارية، الكلمة التي يجب ان تميز بهلالين(شخصية إدارية) أولا وتعزز بدلالاتها الفريدة ثانيا، وهي البعد في الرؤية، والسمو في الهدفية، والمجاوزة في الطموح، والقوة في العزيمة وقد ازدادت هذه الصفات الجميلة جمالا حينما ظهرت على الشيخ الفقيد صورة بلا صوت!!

فقد تقلب في إدارة عدة من المؤسسات والمشاريع الثقافية والعلمية في قم المقدسة لكن دون اضواء ولا ضوضاء إعلامية!

فكانت كل اسهاماته فصولا في دروس منتظمة حول فضيلة الخدمة والخدمة الفاضلة وهو أحد أساتذتها الجديرون بلا ريب.

 

لا ألم مع الأمل:

ومن الدروس الخالدة التي يتاح للجيل الجديد من الطلبة ان يرثوها عنه هو سيرته التي كانت أذكى من خدع التبريرات!!

فان من يتابع انتظامه في دروسه ومشاركاته و انخراطه في السلك الاداري في أكثر من مرحلة من مراحل حياته العلمية لا يسهل عليه أن يصدق ماكانت تعانيه هذه الشخصية من ظروف صحية استثنائية؛ إذ كان يعيش بكلى واحدة ويكابد أزمة السكري الذي سبب له اضطرابات في البصر وغيره، ولكنه لم يكن يسمح لنفسه بالحديث عن العجز أو التعذّر به عن الواجب، وهذا ما أسميه ذكاء الشخصيات في وجه خدع التبريرات، فقد ذهب ونصيحته السلوكية لنا أن المشي على طريق الأمل الروحي رياضة صحية لمن يعانون الألم الجسدي!!

المسالم القوي:

كان من بين طلبة هذا العصر مجموعة قليلة برزت عليها مهارة المراعاة مع اختلاف القناعات.. وقد فقدنا اثنين منهم وهما الشيخان الكريمان (الحباره والبوعويس) وها هو اسم الشيخ ابي البهاء يأتي ليحتل الرقم ثلاثة من نفس القائمة وفي فترة قصيرة جدا!!

إن العديد منا وبعد ان يستقبل اختلافات هذه الحياة بتفكيره يستقل بقناعة شخصية يرى فيها نفسه مخلصا لربه ناصحا لدينه بارا بمجتمعه أمينا على قضيته وهذا طبيعي من كل أحد، ولكن جانب الفضيلة المحمودة في حياة الشيخ عبد الحميد أن قناعاته الاجتماعية والثقافية الجميلة في حد نفسها لم تبنِ حاجزا بينه وبين المختلفين معه فقد عاش لا جهر له ولا همس بالنقد المصادم والمتشدد والمنفر والمباشر مع من لا ينصفون أمثاله، فضلا عمن يمشون في عكس اتجاهه.

فلم تكن المسالمة في مفهوم هذه الكوكبة التي نعيناها هنا موقفا ضعيفا بل يقينهم بأن حق التقدم والمواصلة في ممارسة نهجهم الذي يؤمنون به مع الاخلاق وسعة الصدر والمحافظة على النسيج الطاهر هو أبلغ في الايحاء والايصال لما يرتضونه من فكر وعقيدة.

خواطر نشمية:

الخاطرة الأولى: حضرتني في قم المقدسة شخصية علمية إسلامية مبجلة من غير اتباع أهل البيت عليهم السلام وكان من العلماء المعتدلين الذين يهتمون بجمع الاجازات لمشيخة الاسلام شيعة وسنة، وقد كان الحصول على اجازات علماء الرواية الشيعة هو عنوان سفرته إلى قم، وعندما أردت القيام بضيافته لم تكن ظروفي العائلية تسمح آنذاك، فتصدى الشيخ الحبيب النشمي ورغب إليّ في أن تكون الضيافة عنده فتولى بنفسه طهي الطعام وتحضير المأدبة، وجلسنا في أمسية جميلة تجاذبنا فيها الكلام الاختصاصي حول علوم الحديث والتراث.

الخاطرة الثانية: كان هو وبعض رفقاء دربه الخيرين الأفاضل، يشتركان في درس الأصول على كتاب الحلقة الثانية للسيد الشهيد الصدر عند بعض المشايخ بعد صلاتي العشائين، وذات ليلة انقطع تيار الكهرباء فسادت الظلمة المكان، ولما بدا التحير على الشيخ الذي يقدم الشرح هل يواصل أم يؤجل، اندفع الفقيد يحث على الاستمرار مظهرا الاستعداد لتلقي الدرس والتركيز بكله وان لم يستطع النظر في سطور الكتاب فاستجاب له الشيخ واستكمل الدرس تحت جنح الظلام فيما كان الشيخ النشمي يناقش ويتداخل مع الدرس بشكل طبيعي مبرهنا على حضوره الذهني التام.

الخاطرة الثالثة: لفتني في آخر لقاء جمعني به في أربعينية المقدس السيد محمد علي السلمان، كيف استقبل احد اساتذته بكل ترحاب و اغدق عليه في التحايا وصار يقدمه باسم الاستاذية وما دراسته على يديه الا لمدة غير طويلة جدا وقد مضى عليها نحو من عشرين عاما!!

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. *شيخنا الفاضل*
    صباح الخيرات.
    لقد بدأت يومي بقراءة موضوعكم الجميل عن المرحوم الفقيد السعيد: الشيخ عبدالحميد النشمي.
    فوجدته، موضوع متكامل من حيث المعلومات الشخصية، والأسلوب الرائع الممتع, والأهم: العرض الجميل.

    ولقد استوقفتني هذه الوقفة التربوية التي تؤثر في الجماد فكيف في البشر. *”كان من بين طلبة هذا العصر مجموعة قليلة برزت عليها مهارة المراعاة مع اختلاف القناعات.. وقد فقدنا اثنين منهم وهما الشيخان الكريمان (الحباره والبوعويس) وها هو اسم الشيخ ابي البهاء يأتي ليحتل الرقم ثلاثة من نفس القائمة وفي فترة قصيرة جدا!!)*
    تحياتي

  2. رحم الله الشيخ عيسى الجباره ولو كان موجود بيننا ماذا سوف يقدم الى التهوين علينا بهذه الجائحة ؟ رحم الله المؤمنين ونريد من الاحساء شيخ مثل الجبارة فلمن نجد الى يومنا قلب مثل الجباره رحمه الله كان ومازال في قلوبنا وعقولنا وبين ايدينا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى