أقلام

موقفنا من تفاصيل عاشوراء غير الثّابتة

السيد زكريا الحاجي

يحدث أن يقع في أسماعنا: بأنّ مجموعة دواعش هجموا على عائلة، وقتلوا رجالها بأبشع صورة، وسَبَوا نساءهم، وروّعوا أطفالهم.. كانت هذه القضيّة يقينيّة، لم يشكّك أحد في وقوعها.

ثمّ تواردت الأخبار التفصيليّة عن ذلك الحدث: كيف حاول الرّجال الضّحايا الدّفاع عن أعراضهم؟ وما هي المشادات الكلاميّة التي جرت؟ وكيف بادرت طفلة في الدّفاع عن أبيها، وعلى اثر ذلك ضربها داعشي ملعون على وجهها وتناثر قرطها؟ وذُكر بأنّ طفلاً آخر توفّي خوفاً، وامرأة حاولت الدّفاع عن شرفها حتى الموت، كما يُذكر بأنّه توجد امرأة عجوز لا تقدر على القيام، رفسها داعشي وأسقطها أرضاً.. إلخ.

تواردت التفاصيل الكثيرة حول تلك الجريمة العظيمة التي وقعت بالفعل، وبعض أحداث تلك الجريمة تمّ التثبّت من صحّتها، ولكن البعض الآخر لم يتم تأكيده: فهناك نقل عن أناس معروفين ومن الثّقات، وهناك آخرين مجهولين، وبعض الأحداث لسبب ما، لم يُعرف النّاقل.

يوجد أفراد للعائلة المنكوبة في قرية أخرى، وصل لهم الخبر المؤكّد من وقوع الحدث، وسمعوا أيضاً التفاصيل -المؤكّدة وغير مؤكّدة-، تفاعلوا مع الحدث بكلّ تفاصيله المنقولة، وكان وقوع الخبر كالصّاعقة، أجهشوا في البكاء، وتفجّعوا حُزناً على عائلتهم المنكوبة، حتى كان بعضهم من حرارة الحدث وهو يبكي ويلطم نفسه، أخذ يصوّر مقتضى واقع حال الضّحايا، كانت تلك المشاعر العميقة والمتألّمة تدفع الذّهن قهراً إلى استحضار تفاصيل لم يتم نقلها، وهي حالة طبيعيّة يُحدثها الذّهن عندما يغرق في الألم، ويتصوّر الذّهن تلك الفاجعة بحسب واقع الحال، وما هو متوقّع من ردود أفعال في مثل ذلك الحدث، وينسج الذّهن تصوّرات بحسب معرفته لطبيعة كل شخصيّة، وبما يتوقّع منها.

لكن عندما قبضوا على الدّواعش، وقدّموهم للمحكمة، هذه العائلة المفجوعة قدّمت الوثائق المؤكّدة، واقتصرت على الشّهادات الثّابتة، دون الأخرى غير المؤكّدة.

عندما نأتي لنحلّل موقف العائلة في الحالتين: في المحكمة، وفي حالة تفجّعها: لا يصحّ أن نستشهد بموقف العائلة في المحكمة، ونُخطّئ به حالة التفجّع وما بدر من تفاعل مع تفاصيل الأحداث غير المؤكّدة؛ لأنّ الموقف في كلا المقامين صحيح: في لحظات الحُزن تفاعلت العائلة بعفويّة مشاعر الحُزن؛ لأنّ الفاجعة المؤكّد وقوعها أكبر من تلك التفاصيل الصّغيرة الغير مؤكّدة، لكن يُتوقّع بطبيعة الحال وقوعها، ولحظة الحُزن لحظة تفاعل وليست لحظة محاكمة جزئيّات، هذا ما تقتضيه الطبيعة في تلك الحالة. وأمّا في موقف المحكمة اتخذت العائلة بما يقتضيه المنطق في انتزاع الحقوق.

نحن الشّيعة في محرّم، تلك العائلة المنكوبة في إمامها “ع”، نعلم يقيناً -وبما لا شكّ فيه حتى عند الأعداء-: أنّ الإمام الحُسين “ع” ذُبح وأهل بيته وأصحابه، وسُبيت نساءه وأطفاله.. هذا ثابت لا خلاف فيه، وهذا المقدار من الحقيقة فاجعة تَصغر أمامها كلّ التفاصيل -المؤكدة وغير المؤكدة-، ونحن في حالة تفجّعنا لا ندقّق: هل انقطع شسع نعل القاسم أو لا؟ وهل أصاب السّهم القِربة أو لا؟.. وأمثال هذه التفاصيل نقبلها ونتفاعل معها في لحظات حزننا؛ لأنّنا لسنا في لحظة محاكمة جزئيّات وتفاصيل تتصاغر أمام حدث عظيم، بل لا سيما عندما نعلم أنّ المقدار الذي نقله التاريخ أقلّ من الأحداث التي وقعت حينها، فبطبيعة الحال معركة دامت أحداثها عدّة ساعات، أطرافها أفراد كثيرون: من الإمامين الحُسين، وزين العابدين، والعباس، والقاسم، وزينب، وباقي النّساء، والأطفال، والأصحاب -عليهم السّلام-، وفي الجانب الآخر: معسكر يزيد -لعنه الله-، وكانت المعركة في خلفيّتها الثّقافيّة تعكس التاريخ الاسلامي، وكانت دامية وبشعة جداً، وبعيداً عن ما ذكره التاريخ، من المؤكّد وقعت أحداث -وهي مُجملة- في مخيّم الإمام الحُسين مع أهل بيته وأصحابه “ع”، كما وقعت أحداث في معسكر يزيد -لعنه الله-، ومن الطبيعي والمتوقّع كان هناك نزاع ومشادات بين المعسكرين، وسهام، ونبال، وقتال بالسّيوف، وأحداث مختلفة بعدد من سقطوا قتلى، وكذا في السّبي وحرق الخيام وترويع الأطفال.. إلخ، إذاً هناك كم هائل من الأحداث، تخلّلتها مواقف وخطب وعبارات ومشاهد كثيرة جداً، وإذا ما أردنا أن نحلّل المشهد بالموازين الطبيعيّة، نعلم يقيناً أن هناك الكثير من الأحداث فُقدت ولم تصلنا، هذا ونحن هنا نقتصر على الاحتمالات الطبيعيّة المنطقيّة في مثل هكذا حدث.

نعم، كذلك نعلم بأنّ ما وصلنا ليس كلّه ثابت يقيناً، ففيه ما هو مؤكّد وما ليس كذلك، لكن طبيعة العقل في لحظة الحُزن أمام قضيّة وفاجعة كبيرة، لا يدقّق في التفاصيل، بل قد يسترسل في تصوّر المشاهد المفقودة.

نعم، الفقيه عندما يحتاج إلى الاستعانة بحدث أو شاهد أو عبارة من تلك الواقعة، من أجل استنباط الحكم الشّرعيّ، هنا يكون أمام المحكمة، ويتعامل مع الأحداث والنّصوص بالدّقة وما يقتضيه حال الاستنباط، وهي حالة تختلف عن حالة الحُزن تماماً، مع العلم بأنّ نفس هذا الفقيه عندما يكون في حالة الحُزن والتفجّع يستحضر ذهنه بعفويّة تلك الاحتمالات من الأحداث المذكورة والغير مؤكّدة، بل ويستغرق في تصوّر ما تقتضيه طبيعة الحدث، حتى من دون اخبارات تاريخيّة، وليس ذلك إلا مراعة لمقتضيات المقام.

كذلك العقل نفسه الذي يتوسّع في لحظة الحُزن، عندما يريد أن يصيغ المفاهيم والعقائد العامّة، لا يتم التعاطي مع النّصوص والأحداث بطريقة عاطفيّة، فمنطق العقل يمنع تلك المرونة والتوسّع في هذا المقام.

الحُزن طبيعة عاطفيّة، ومن ثمّ موازينه مرنة -في حالة الحُزن فقط-، والحُزين في ابداء مشاعره لا يقف مع الجزئيّات ويدقق فيها، ولكن لا يُفهم من ذلك الانفلات العاطفي، كما ليس المقصود هو تبرير كلّ ما يُذكر في أحداث عاشوراء، بل لابد أن يكون تحت مظلة العقل وفي حدود الامكان، بمعنى أنّه قد يبكي ويتصوّر أموراً لا يعرف مدى حدوثها بالفعل، لكنّه يتوقعها بحسب طبيعة الحدث، والانسان بطبيعته في لحظات الحُزن لا يراعي هذه الحدود؛ لأنّه مشغول بالقضيّة الكبرى القطعيّة، وقد قرّبتُ الفكرة بالقصّة التي ابتدأتُ بها، حتى نتصوّر الأمر بطريقة سليمة وواقعيّة بعيداً عن الجدل الدّيني.

القضيّة وجدانيّة، فإذا ما أردتَ أن تُدرك حقيقة الأمر، عليك أن تتجرّد من الموانع الجدليّة النّفسيّة، ثم ارجع إلى عفويّة طبيعتك في حالة الحُزن الشّديد، وينكشف لك الأمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى