أقلام

قراءة في كتاب الفريج الشمالي  (نقوش على جدار الذكريات)

علي الوباري

قد نستغرب إذا رأينا أحد أبنائنا مستسلم لجهازه الذكي الذي يتيح له التواصل مع من يريد في أية بقعة من العالم، يحضر له الأخبار والصور بلحظة وقوعها ويدله على أي شخص يريد، يوفر له أي لعبة الكترونية وكل مقطع فيديو يسليه، الجهاز الذكي بخوارزمياته يلاحقك ويزودك بما تريد من معلومات وأحداث باللحظة الذي يتراوح قيمته من ٢٠٠٠ إلى ٥٠٠٠ ريال وهو في متناول يد طالب بالمرحلة الابتدائية يقدمه هدية له والده، لا نستغرب حين نقرأ في كتاب يوثق تاريخ الأجداد عن شخص تنازل عن مزرعته من أجل راديو يملكه بحريني يصلح راديوهات ليستمع من خلاله لخضيري أبو عزيز، ربما معظم جيل هذه الأيام لا يعرفون ما هو الراديو.

في عصرنا عصر الوفرة والترفيه والرفاهية حين تقول لأحد أبنائك إن الأجداد كانوا يعملون لمدة ٧ سنوات بأجرة ٤٠ ريال وبشت وكسوة عيد، وبعض العوائل تنام دون وجبة عشاء لا يستوعبون ما يسمعوه.

هذه المقارنة بين حقبتين الفارق الزمني بينهما أقل من قرن، هذا ما نقرؤه في بعض الكتب ببعض المجتمعات.

يستطيع الباحث أن يعمل دراسة اقتصادية واجتماعية ويحلل أسباب ونتائج الظروف المؤثرة في البيئة الاجتماعية على معيشة الفرد والأسرة بذلك الزمن.

في زمن يعمل العامل لمدة ١٨ ساعة في الحياكة ويفرح العاملون بالحياكة حين يسقط المطر وينشدون:

طاح المطر وشانت وجيه المعازيب

وجه المعزب كار كنا وجه ذيب

لحطوا الغدا لا عصب ولا طيب

لحطوا العشاء صار ضرب المجاعيب

لم يسمع جيل اليوم عن كلمة (ساباط) وماذا تعني، وليس الجيل الحالي بحاجة لها لأنه يعيش في أرقى المجالس والديوانيات وبأرقى أنواع الديكورات والتكييف، حياة عصرنا حياة وفرة الموارد الاقتصادية والاستمتاع.

حين البحث عن مفردات وتاريخ الماضي، كيف نجد المعلومات التي توثق تاريخ الأجداد الكادحين والفاعلين في الحياة بنشاط وحيوية، كيف نحدد العلاقة بين أسلوب السكن والشوارع والمرافق العامة، ولماذا تم اختيار جغرافية معينة من الأرض، ودراسة ما تتضمنه التربة من موارد طبيعية بسببها قامت آثار، وعرفت مفردات اندثرت لا نسمعها الآن، مثل البراحة والدوغة والساباط الذي يعني سقف بين حائطين بينهما طريق أو نافذ.

هذا ما استعرضه المؤرخ الباحث سلمان الحجي في كتابه الغني بالمعلومات عن موقع جغرافي وتاريخي في الهفوف يكاد يهجره سكانه بالانتقال إلى سكن عصري بأرقى أنواع التصاميم العصرية، كتاب ميداني يوثق موقع ارتبط بجغرافيا مختارة قريبة من المزارع والعيون، تتيح لساكنه العمل وممارسة بعض المهن والحرف.

إنها منطقة جغرافية مشهورة ومميزة اختيرت بعناية في شمال الهفوف وللشمال بعد اقتصادي بعلم الاقتصاد، هذه المنطقة (الفريج) تحكي تاريخ اجتماعي واقتصادي وعلمي وهو أحد الأحياء الثلاث الرئيسة بالهفوف (الكوت، الرفعة الشمالية، النعاثل).

كأية منطقة جغرافية شمالية تعمل على الاستقطاب في التنمية بالجهة الشمالية في الجهة المسكونة لتكون أكثر تنمية عن غيرها.

أن كتاب (الفريج الشمالي- نقوش على جدار الذكريات) للكاتب سلمان الحجي يتضمن ٥٩٠ صفحة طباعة عام ١٤٤٥هحري، يسرد تاريخ منطقة جغرافية امتاز أهلها بالعمل والعلم بالرغم من صعوبة العيش بذلك الوقت، سكان الفريج الشمالي أصحاب حرف ومهن وبيئة اجتماعية كادحة تتجلى فيها أجمل صور التكافل والتضامن والعيش الاجتماعي السلمي.

طبيعة وخصائص السكن تنبئ بطبيعة العلاقات الأسرية والاجتماعية المنسجمة فبناء وإنشاء السوابيط لحاجة المجتمع في مناخ يغلب عليه الحرارة المرتفعة في معظم أيام السنة، إنشاء السوابيط من قبل بعض الأسر الميسورة دلالة على الانتماء الاجتماعي، العائلة الميسورة تقدم ما تستطيع فعله من أجل راحة غيرها بعقد اجتماعي ضمني للعيش التكافلي مثل بناء المساجد والحسينيات وتأسيس الأوقاف كحفر الآبار وبناء الساباط المبني من الجذوع والطين والحصر وإعداد البراحات للتجمعات وإقامة مناسبات الزواجات والأفراح.

الكتاب سفر غني باسماء العوائل وسوابطيهم وأعمالهم وحرفهم ونشاطاتهم الخيرية والاجتماعية، ذكرت معظم العوائل بما قدموه للمجتمع سواء الشيوخ منهم أو الوجهاء أو أصحاب الأعمال والمهن والحرف، الكتاب يوثق تاريخ منطقة سكنية مؤثرة اجتماعيًا وثقافيًا، جاءت العوائل من مختلف مدن وقرى الأحساء والبحرين أنتجت وأسست مفردات ومفاهيم خاصة وعملت بحرف ومهن لها طابع خاص، مارسوا الحرف والمهن وأسسوا أسماء الأدوات والآليات.

كتاب الفريج الشمالي يسرد حكايات الشهامة والكرم وقصص التعب والكدح التي لا تصدق بسبب صعوبة العيش إذا ما قارناها بزمننا، زمن الترف والرفاهية والعيش الرغيد.

فريج الشمالي ارتبط أهله بحب العلم وكذلك ممارسة التجارة والزراعة والحرف الفنية مثل الصفارة والنجارة والحدادة وصناعة الفخار.

ركز الكتاب على شكل البناء وما تقتضيه طبيعة الطقس التي تفرض على أزقة وشوارع الفريج شكل معين بالتصميم لتقليل تأثير الرياح والغبار والحرارة مثل إنشاء السوابيط.

هناك عدد كبير من السوابيط التي تنسب إلى أسماء العوائل التي أسستها وكان للمرأة نصيب في مساهمتها بالمشاركة الاجتماعية وتجسيد التضامن مثل ساباط أم هاشم وهو الوحيد المعروف باسم امرأة المكون من غرفتين على شكل تدريجي.

في الكتاب معلومات قيمة ومفردات لم تعد تستخدم ولا يعرف معناها إلا من المختصين والذين عاشوها وهم قلة، إذا لم توثق بكتاب ستندثر وتمحى من ذاكرة الناس والتاريخ مثل أسماء شخصيات تركت آثار خيرية أفادت المجتمع وقدمت خدمات اقتصادية اجتماعية.

من الحكايا الغريبة ما ورد في الكتاب صفحة ١١١، عيادة الدكتور (كستورا) بالقرب من موقع النقل الجماعي قديمًا الذي لم تذكر جنسيته، كان يرتب المرضى بالدفعة الأولى بمنحهم مسامير والدفعة الثانية قطع خشب والدفعة الثالثة يحملون أعواد كبريت.

يذكر في الكتاب إحدى تجارب العاملين، نه عمل ٧ سنيين ب ٧٠ ريال وكان بذلك الوقت تحسب السنة ١٣ شهرًا بزيادة شهر عند الملاك الحياك، وفي حادثة طريفة تدل على ضيق ذات اليد أن أحد الخبازين حج مع إحدى الحملات على أن يزود صاحب الحملة بخبز يوميًا لمدة سنة. توجد في الكتاب قصص ما هو أكثر مرارة في صعوبة الحياة وشظف العيش.

من يقرأ الكتاب يستطيع مقارنة الأمراض المعدية بذلك الوقت ووقتنا الحالي مثل جائحة كورونا بعصر الإنترنت مقارنتها بسنة الرحمة عام ١٣٣٧هجري الذي انتشر فيها الطاعون وموت عدد كبير بسكان قليل وإمكانات صحية شبه معدومة.

في صفحة ٢٤٠ يوثق الكتاب المطر الغزير لمدة ٤٠ يومًا عام ١٣٦٠ هجري بسبب غزارة الأمطار تهدمت بيوت وأتلفت المحاصيل الزراعية ومنها التمر حتى وصل المن ٢٢ ريالًا.

يتضمن الكتاب أسماء لا تتداول هذه الأيام مثل المسطاح تستخدم لعمل الفخار، وكذلك لا نسمع عن يوم اسمه يوم القرش يوم احتفال لقدوم شهر رمضان.

من المناطق الجغرافية في الفريج الشمالي التي لها أهمية ونسيت ككلمة، (الخر) الأرض المنخفضة بالجهة الجنوبية الشرقية من الفريج ولها ذكريات اقتصادية تنموية لأن شركة أرامكو فتحت لها مكتبًا للتوظيف بهذا المكان.

ويوثق الكتاب أيضًا لأشهر المجالس المشهورة والمعروفة بكرم أصاحبها وهي عديدة، يذكر الكتاب بعض العوائل التي هاجرت من الوطن لبعض دول الجوار، كما اهتم الكتاب بذكر المهن وأسماء من مارسها بذلك الزمن مثل الغوص واحتراف البناء والنجارة التي هي أكثر مهنة عمل فيها الأهالي ولأن القرآن الكريم الكتاب الذي لا يفارق المسلم كمنهج حياتي، ذكر الكتاب القارئات من النساء ومدراس القرآن المشهورة والقائمين عليها وكذلك الملايات الحسينية، كما ذكر أفضل الأعمال التي لا بد منها مثل القابلات وحفاري القبور ومغسلي الأموات والطباخين والفخار والعاملين بالخياطة الذين ذهبوا البحرين بمهنهم،

أيضًا ذكر الكتاب المعالجين بالطب الشعبي والمحامين، مع ذكر عادات رمضان والأعياد وبعض التقاليد التي تدل على تضامن المجتمع في الأفراح والأتراح.

كتاب الفريج الشمالي للكاتب سلمان الحجي هو أحد كتبه العديدة، وهو وثيقة تاريخية تركز على الشخصية الفردية والشخصية العائلية وما تركته من آثار اجتماعية واقتصادية، ويوثق أدوار أفراد المجتمع رغم صعوبة الحياة ولكنهم ساهموا في التكافل والتضامن وعاشوا هموم الماضي بالتعاون ليخففوا أسباب صعوبة الحياة. الجدير ذكره في الكتاب أن الباحث الحجي اعتمد بشكل كبير في معلوماته على شخصيتين متميزين في تاريخ الأحساء وهما شيخ المؤرخين الحاج جواد الرمضان، والحاج صاحب الذاكرة العميقة الموسوعية المرحوم علي عبدالوهاب المرزوق.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى