أقلام

إضاءة على كتاب (العلامة الشيخ محمد المهنا: وقفات مع سيرة المربي)

علي محمد عساكر

على هامش الفعالية الثقافية الاجتماعية (رأس المال الاجتماعي ودوره في المجتمع) التي تفضل بإحيائها مشكورا الأخ العزيز الأستاذ (علي بن عيسى الوباري) مساء يوم الجمعة 25 جمادى الآخرة 1441هـ 20 فبراير 2020م في منزلي المتواضع، تكرم الأستاذ المهندس (عبد الله بن محمد البحراني-أبو محمد) بإهدائي كتابيه الجميلين: (المدرسة الأولى بالمبرز وسبعون عاما من الإشراق،، والعلامة الشيخ محمد المهنا: وقفات مع سيرة المربي)

وبعد ترتيل آيات الحمد والشكر لمهندسنا البحراني الكريم لتكرمه بهذا الإهداء الثمين، فإني سأحاول في هذه السطور المتواضعة تسليط الضوء على كتاب (العلامة المهنا) ليس من باب الدراسة النقدية المتكاملة لما يضمه بين دفتيه، فإن ذلك عبئ ثقيل، ويحتاج إلى مؤهلات أنا بعد لم أصل إليها، وإلى وقت أنا لا أملكه، ولذا فكل ما سأسطره الآن هو ليس بأكثر من مجرد عرض للكتاب، أو إضاءة براقة عليه علّها تساهم في التعريف به، وتعطي القارىء الكريم انطباعا عاما عنه.
الكتاب يقع في (400) صفحة من الحجم الوزيري، ويتكون من (11) فصلا، و (5) ملحقات، إضافة إلى المقدمة، وكلمة الشكر والعرفان.

فصوله تحمل العناوين التالية: (موطنه -الشيخ المهنا- الأحساء،، العائلة والنشأة،، مسيرته العلمية،، أخلاقه الكريمة،، الشيخ ومجتمعه،، بكلمات وأقلام الآخرين،، الشيخ ونقوشه الجميلة،، إلى الرفيق الأعلى،، تأملات،، مقابلاته مع سلمان الحجي،، في واحة الشعر).

وأما الملحقات فهي: (تعريفات شخصية،، فهرسة لمكتبة الشيخ،، موتى من آل المهنا ممن دفن بجوار مراقد المعصومين،، الوثائق،، الصور).

عنوان الكتاب (العلامة الشيخ محمد المهنا: وقفات مع سيرة المربي) وحقيقة لا أدري ما هو الدافع الذي دفع الكاتب إلى تأليف كتابه هذا، وإلى اختيار هذا العنوان بالذات، ولم أحاول أن أسأله عن ذلك رغم يقني أنه لن يبخل عليّ بالإجابة.
ولكن من خلال العنوان المصدّر بكلمة (العلامة) يتضح لنا أن الكاتب أراد أن يبين لنا أنه لا يترجم في كتابه هذا شخصية عادية من عامة الناس، وإنما شخصية علمية أمضت الشطر الأكبر من حياتها في الدراسة العلمية الدينية، حتى قطعت في تحصيلها العملي شوطا جيدا وصل إلى مرحلة (السطوح العليا) ودرست على أيدي بعض المجتهدين الكبار كآية الله الشيخ محمد الهاجري رحمه الله تعالى.

وأما عن تحديد الكاتب لوقفاته بأنها (مع سيرة المربي) فربما يمكننا أن نستنتج منه أن الذي شدّ الكاتب إلى هذه الشخصية، ودفعه إلى الكتابة عنها هو (الجانب التربوي وليس العلمي) إذ رأى المؤلف أن الشيخ المهنا كان مربيا بأقواله وأفعاله على حد سواء، وأن سيرته العملية تشهد له بذلك.

وقد يعزز استنتاجنا هذا قول المؤلف في الصفحة (155) من الكتاب-وهو النص الذي جعله خلف الغلاف أيضا-: (في البداية كنت أتعمد زيارة سماحة الشيخ محمد المهنا رحمه الله لأطرح عليه بعض الأسئلة التاريخية، لأنه ملّم بتاريخ المنطقة، ولكن ومع الوقت انجذبت لمجلسه لدماثة خلقه، ونلت من الفوائد الروحية والنفسية أكثر مما اكتسبته من اطلاعي على العشرات من الكتب والدورات التدريبية في مجال عملي وفي خارجه.
ومن عادة الشيخ أن يسترسل في الحديث عن الآخرين، وذكر مآثرهم ومنجزاتهم، ولكنه لا يتحدث أو ينسب شيئا من الأعمال لنفسه، وعندما أسأله عن أعماله وأدواره لخدمة مجتمعه يتبسم ولا يعلق، حيث التواضع والإيثار، وأكتشف لاحقا أن له رحمه الله دورا رئيسيا في ذلك المشروع، ولكنه لم يذكر ذلك إنكارا لذاته، وهذه من شمائل الكبار).

فنحن نرى المؤلف -هنا- يؤكد أنه كان يعتقد أنه يزور (الخبير) بالأحساء، (الملم) بتاريخها، ليكتشف أنه -في الحقيقة- يقصد (المربي) للنفوس، (المداوي) لأمراضها، ثم يوضح كيف جذبه ذلك إليه بقوة مغناطيسية لا تقاوم، ويبيّن إلى أي حد تأثر بدروس ذلك المربي القولية والعملية، وكيف انعكست إشراقاتها النورانية على قلبه ونفسه، ويذهب في بيان ذلك بعيدا جدا، وإلى حد أن يؤكد أن ما كسبه منه من فوائد روحية ونفسية أكثر مما اكتسبه من اطلاعه على العشرات من الكتب والدورات التدريبية في مجال عمله وفي خارجه!

وإنسان يفرض عليك شخصيته إلى هذا الحد، ويجذبك إليه بهذه القوة، ويصل به الأمر في جذبه لك، وتأثيره عليك إلى حد أن يجعلك تعتقد أن استفادتك التربوية منه وصلت إلى هذه الدرجة العالية، أظن أنه من الطبيعي جدا أن يدفعك ذلك كله إلى البحث في تاريخه، ومحاولة التعرف على حياته، والوقوف على سيرته ولو من باب فضول المعرفة، كما من الطبيعي أيضا أن تجعل السمة الأبرز في تلك الشخصية هو (عنوانها) الدال عليها، الكاشف عن أهم الصفات الموجودة فيها.

وعلى هذا الأساس (كما أتصور) أقدم (المهندس البحراني) على البحث في سيرة (الشيخ المهنا) وتدوينها في هذا الكتاب، واختار له هذا العنوان دون غيره من العناوين.

ولنترك دوافع البحث واختيار العنوان لنأتي إلى المقدمة، فقد افتتحها (المهندس عبد الله) بإشارة مهمة، هي أن الفاعلين (إيجابيا) في المجتمع يعيشون الحياة مرتين:

الأولى: تتمثل في حياتهم الطبيعية، التي يعيشونها منذ مجيئهم إلى الدنيا إلى رحيلهم عنها.

الثانية: حياة الذكر الحسن بعد الموت، فهم يرحلون من الدنيا وألسنة الناس تلهج بذكرهم، وترتل آيات حمدهم، وشكرهم، والثناء عليهم، فنصيبهم هو الخلود في هذه الحياة بخلود أعمالهم ومنجزاتهم، واتخاذ الناس قدوة لهم جيلا بعد جيل.
أي أنهم يأتون إلى الدنيا ولا يرحلون منها، فمرة يعيشونها بأبدانهم، وأخرى بذكرهم، ومع هذا فإن ما لهم عند الله هو خير وأبقى.

ومن هذه الافتتاحية بهذه الإشارة الجميلة (التي ذكرناها بالمعنى دون النص، كما ستكون طبيعة هذا العرض كله إلا ما سنضعه بين قوسين) كانت انطلاقة المؤلف في مقدمته بالحديث عن الشيخ المهنا بالتأكيد على أنه رحمه الله ممن عاشوا هاتين الحياتين الطيبتين، نتيجة لما تجسد في شخصيته من قيم ومآثر ومكرمات، وما قدمه لدينه ومجتمعه من خدمات وإنجازات على أكثر من صعيد وصعيد.

ولأن المؤلف سيذكر كل شيء عن قيم الشيخ المهنا ومثله وأعماله وإنجازاته بالتفصيل في مؤلفه هذا، فهو لم يطل في الحديث عنها في مقدمته، وإنما جعله حديثا مقتضبا جدا، ثم غادره إلى الحديث عن كتابه مشيرا (في بضعة أسطر أيضا) إلى ما سيتضمنه من محاور رئيسة عن المترجم وسيرته، إلى أن ختم بالتأكيد على أننا (بفقد هذا الشيخ فقدنا مدرسة في النزاهة والتواضع، في وقت يشتكي فيه الجميع من الأزمات) مؤكدا على أننا اليوم أحوج ما نكون إلى (عالم الدين الرباني والمربي، ومن يعيش للمجتمع وهمومه).

الفصل الأول-(موطن المترجم: أحساء الحب والولاء) حاول فيه المؤلف التأكيد على ما عُرف به الأحسائيون من الحب والولاء للنبي وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين منذ الصدر الأول للإسلام إلى يوم الناس هذا، مقدما على ذلك بعض الشواهد والاستدلالات من القديم والحديث، فاتخذ من القديم (زيد بن صوحان العبدي) الذي كان (أحد سادة الشيعة في المنطقة) مثلا في الولاء والحب للعترة الطاهرة، إلى أن استشهد بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام، موضحا (أعني المؤلف) بأن (هناك أمثلة عديدة لأنصار أمير المؤمنين عليه السلام في هذه البلاد، وعلى مدى العصور…).

ومن الحديث اتخذ من ثقة السيد محسن الحكيم في الأحسائيين، واعتماده عليهم في الأزمات والملمات دليلا أكيدا على ما اشتهر عنهم من الإخلاص في الدين والإيمان، والصدق في الحب والولاء للنبي وعترته الطاهرة.

فقد كان للسيد الحكيم رسالة مؤرخة بتاريخ 18 ربيع الأول 1376هـ وموجهة إلى السيد محمد السيد حسين العلي (العالم) يخبره فيها عن الأزمة المالية التي تعيشها المرجعية وتعيقها عن أداء رسالتها، ومواصلة مشاريعها، ويحدثه عن (المسجد الهندي) وأهميته قياسا إلى غيره، ويشرح له ما يريد القيام به من مشاريع متعلقة بهذا المسجد، ويطلب منه مساعدة الأحسائيين المادية في ذلك، ومما جاء في هذه الرسالة: (…فاستخرت الله أن أكتب لكم خاصة، وإلى المؤمنين من أهالي الأحساء عامة، ليساعدوني في هذا المشروع وإتمامه على النهج الذي أراه صالحا لأهم العواصم العلمية (أعني النجف الأشرف) وليس من رأيي أن أكتب إلى نقطة من نقاط الشيعة غير الأحساء، حرصا مني على المحافظة والاحتياط في شؤون المركز…).

ولا يفوت المؤلف أن يتخذ من تغني شعراء الأحساء بحبهم لأهل بيت العصمة والطهارة، وإكثارهم من مدحهم دليلا حيا على ذلك الولاء الصادق، فيثبت في كتابه قصيدة الشاعر الأحسائي الكبير الأستاذ ناجي بن داود الحرز (تحية إلى الأحساء) التي افتتحها بقوله:

ما زالت الأحساء تثبت أنها مخلوقة لحب آل محمد
ويعقبها بقصيدة مطولة للشاعر الأستاذ محمد عبد الرسول البقشي، ثم يختم بأبيات مختارة من قصيدة للشاعر الأستاذ محمد عبد الله الحدب، ليعرج بعد ذلك إلى ما قام به الأحسائيون من شراء أرض في كربلاء وتشييد (الحسينية الأحسائية) عليها، وذلك في سنة 1377هـ مشيرا إلى أنه توجد لديه (نسخة من وقفية هذا البيت الحسيني العريق، التي صادق عليها المرجع الديني السيد محسن الحكيم، وذيلت بشهادة عدد من علماء الدين القاطنين في العراق في ذلك الزمان، منهم: الشيخ محمد سلمان الهاجري، والشيخ حسين الشيخ محمد الخليفة، والسيد هاشم السيد حسين العلي، والشيخ باقر الشيخ موسى آل أبو خمسين، والشيخ علي الشيخ محمد العيثان، وغيرهم) كما وضع مقطعا من تلك الوقفية، معتبرا ذلك من شواهد ولاء الأحسائيين لأهل البيت، وحرصهم على إحياء أمرهم في كل مكان، ومشيرا إلى أنه تم إزالة هذه الحسينية في عهد الحكم البعثي للعراق.

في افتتاح الفصل الثاني (العائلة والنشأة) أشار المؤلف إلى أن شيخنا الجليل ينتمي إلى (عائلة المهنا، أحد العشائر العريقة في المنطقة، أفرادها ينتشرون في الأحساء والدمام، وفي العراق، وبلدان الخليج، وأغلبهم يمتهنون صياغة الذهب، والأعمال الحرة، ومنهم علماء الدين، ورجال الأعمال، والأكاديميون، والموظفون في القطاع العام والخاص)
بعدها بين محاور هذا الفصل الخمسة: (الشيخ في سطور،، الوالدان الكريمان،، فاضلات من حوله،، مكان سكناه،، مشجرة العائلة المختصرة).

ونحن نكتفي من ذلك كله بالإضاءة على محور (الشيخ في سطور) فخلاصة ما ذكره المهندس في هذا المحور هو أن شيخنا الفاضل ولد في الأحساء، سنة (1352هـ) تقريبا، وفي قول آخر لم يذكره المؤلف أن ولادته كانت سنة 1346هـ لأسرة متوسطة الحال اقتصاديا، ونشأ وترعرع في ظل أبوين صالحين اهتما بتربيته على الخير والصلاح، وتعلّم القرآن الكريم والكتابة على يد المرحوم السيد علي نجل المقدس السيد حسين العلي…كان معروفا منذ صغره بالرزانة، وعدم الميل إلى اللهو واللعب، كما كان عاشقا لمآتم أبي عبد الله الحسين عليه السلام، حتى أنه كان ينظم مجالس العزاء التي تقام في بيتهم وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره…وفي بداية حياته امتهن مهنة الآباء والأجداد (الصياغة) وكان يعمل في بيته، ثم افتتح له دكانا للصياغة في (سكة الخيل بالقرب من الشعبة) وتطور في عمله هذا إلى أن فتح مع أبنائه مشغلا لصياغة الذهب، وتوسع في البيع إلى حد أن أصبح يذهب إلى العاصمة (الرياض) بعد أن كان البعض من الرياض يقصدونه إلى الأحساء بقصد الشراء لما حققه من شهرة وانتشار في صنعته.
من خلال الفصل الثالث (مسيرته العلمية) نكتشف أن الشيخ المهنا رحمه الله لم يتوجه إلى الدراسة العلمية إلا وهو متقدم في العمر نسبيا، فقد انتقل والده إلى جوار ربه سنة (1376هـ) وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وإلى ذلك الحين لم يلتحق بالدراسة بعد، بل تأخر عن ذلك إلى عام 1381هـ ليبدأ مسيرته العلمية وهو ابن (31) سنة تقريبا، وقد علل المؤلف ذلك (بمسؤوليته عن عائلة كبيرة) كما أوضح أن دراسته كلها كانت في الأحساء، ونقل في ذلك ما قاله المترجم عن نفسه في لقاء له مع المؤلف: (لما عاد العلامة السيد محمد علي بن المقدس العلامة السيد هاشم العلي من النجف الأشرف لزيارة الأهل في الأحساء عام 1381هـ عقد مجلسا للدرس في بيت السادة بالشعبة، وكان ذلك في أول بداياتي وإقبالي على دراسة الفقه والأحكام الشرعية…وبعد عودة السيد إلى العراق توقف الدرس، بعدها حضرنا لدى السيد هاشم العلي بعض الدروس بعد صلاة المغرب في مسجد المجابل، ولم تستمر تلك الدروس طويلا).

وفي عام 1381هـ عاد الشيخ صالح السلطان إلى الأحساء، وافتتح حوزة علمية في بيته، فكان الشيخ المهنا من أوائل الملتحقين بها، إلى أن قطع شوطا لا بأس به، فنصحه الشيخ صالح بالالتحاق بدروس آية الله الشيخ محمد الهاجري في بيته بحي الفاضلية في الهفوف، فدرس عنده الكفاية لمدة أربع سنوات.

هذا ملخص ما ذكره المهندس البحراني عن دراسة الشيخ المهنا، وأما عن تدريسه فقد كانت بدايته في (حسينية المهنا) في الفترة المسائية، إلى أن تم إعادة فتح الحوزة في المسجد الجامع بالمبرز سنة 1395/1396هـ فانتقل الشيخ إلى التدريس فيها، إلى عام 1400/1401هـ ثم توقف عن ذلك وعاد إلى التدريس في حسينية المهنا.

ولم يذكر المؤلف في عرضه هذا السنة التي بدأ فيها الشيخ التدريس في حسينية المهنا، ولكنه في فصل (الشيخ ومجتمعه) أثناء حديثه عن (نشاطه الديني) تحت عنوان (مشواره مع التدريس) ذكر أن ذلك كان سنة 1390هـ، أي بعد تسع سنوات من طلب الشيخ للعلم.

وأما عن تلامذته فقد أشار المؤلف إلى دراسة عدد كبير من طلبة العلم عنده، وأكد بأنه (يمكن القول أنه لا توجد قرية أو بلدة في منطقة الأحساء إلا وفيها أحد طلاب الشيخ صالح، أو الشيخ محمد) ثم ذكر عددا لا بأس به من طلبته، لينتقل بعدها إلى الحديث عن مكانته عند العلماء، ليشير إلى (أن المقدس السيد محمد العلي أعطاه ولاية شرعية على مغتسل حي الشعبة في عام 1386هـ وهذا مؤشر لقربه ومكانته لدى السيد) كما يؤكد على (أن للشيخ مكانة وتقديرا خاصا لدى المرجع الديني السيد علي السيستاني، ولديه وكالة منه، وفيها من السعة ما ليس لغيره، وكان السيد يخاطبه في مراسلاته بسماحة العلامة الجليل، الورع التقي…) ليخبرنا بعدها أن (لدى الشيخ إذنا من السيد الخوئي في صرف حق الإمام على المشاريع العلمية والخيرية التي يشرف عليها، وكان السيد الخوئي مطلعا على دور الشيخ ورعايته للمدرسة الخاصة بتعليم الأولاد الصغار، ويحث الشيخ على مواصلة الجهود التي يتأمل منها الكثير) وفي فصل (الشيخ ومجتمعه) نقل المؤلف نص الرسالة التي أرسلها العلامة السيد محمد علي السيد هاشم العلي سنة 1397هـ من العراق إلى الشيخ محمد المهنا يفيده فيها بأخذ ذلك الإذن له من السيد الخوئي، والتي افتتحها بمخاطبة الشيخ المهنا بقوله: (إلى حضرة جناب شيخنا العالم الفاضل…).

وعلى أية حال فبعد أن حدثنا المهندس البحراني عن مكانة الشيخ المهنا عند السيد السيستاني، وأخبرنا عن ذلك الإذن الذي لديه من السيد الخوئي، راح يخبرنا عن زيارة الشيخ للعراق سنة 1395هـ والتقائه برفقة سماحة الشيخ حسين الخليفة بالشهيد محمد باقر الصدر، وينقل ما قاله الشيخ حسين للسيد الصدر في التعريف بالشيخ المهنا: (هذا الشيخ من شيوخ المنطقة، ولديه حوزة علمية، ويرعى عددا من طلاب العلم، ويشرف على حسينية تقام فيها مناسبات آل البيت) مما جعل الشهيد السعيد يوليه اهتماما خاصا، ويحثه على مواصلة مشاريعه وتدريسه، لينطلق (المهندس عبد الله) إلى الحديث عن علاقة الشيخ المهنا بسادة السلمان، ويسترسل في ذلك إلى أن خلص في نهاية هذا الفصل إلى أنه يعتقد (أن نقطة التحول الكبير في حياة الشيخ عندما توجه لطلب العلم في الثلاثين من عمره، وتدرج في هذا المجال حتى أضحى أحد أساتذة حوزة المبرز) ويختم بذكر الكتب التي درسها، ويشير إلى اهتمامه بتعليم الصغار، وحثه لهم على القراءة في كتب الفقه والأخلاق، وقيامه بتدريسهم الرسالة العملية (منهاج الصالحين) للسيد السيستاني عدة مرات.

في الفصل الرابع (أخلاقه الكريمة) تناول المؤلف الجانب الأخلاقي في شخصية المترجم، فسلط الضوء على بعض القيم الأخلاقية في شخصيته، وهي: (التقى والورع،، التسامح،، التواضع ونكران الذات،، الكرم والعطاء،، منهج الشيخ العبادي) وفي جميعها ذكر عدة مواقف عملية من حياة الشيخ تدل على تجسد تلك الأخلاق العظيمة في شخصيته الكريمة، مما يعني أنه فعلا لعلى خلق عظيم.

فكان مما نقله في تقواه وتحرجه واحتياطه لنفسه أنه أمّ الجماعة في الصلاة سنوات كثيرة، ولكن لأنه يتهم نفسه، ويرى أنه غير مؤهل لذلك لم ينو الإمامة في الصلاة طيلة حياته، ولديه استفتاء من السيد الخوئي بجواز ذلك، اطلع عليه المؤلف عند ابن الشيخ (عبد الرسول) ونقله بنصه في الصفحة (84) من الكتاب.

كما نقل عدة نماذج من تسامحه، بل وسعيه للإصلاح بين الناس حتى بالبذل والتعويض من أمواله أو ممتلكاته، ومن ذلك أنه (حدث خلاف بين اثنين من أبناء عمومة الشيخ على طريق ضيق، أو “حوش” بين بيوتهم، وعندما علم الشيخ تدخل للإصلاح بينهم، وحتى ينهي النزاع بينهم عرض على أحدهم أن يتنازل عن حقه، ويقوم الشيخ بتعويضه بشيء آخر من ملكه الخاص).

وفي نكرانه لذاته نقل المهندس البحراني عدة مواقف جميلة ومعبرة، ربما كان من أجملها وأقواها تأثيرا في النفوس، أنه (في إحدى السنوات تعرض رجل من سكان الحي لنكسة صحية، وأصبح طريح الفراش، ويحتاج لرعاية طوال اليوم، فبادر الشيخ -وبحسه الإنساني- إلى نقل الرجل لمنزله، وتولى القيام بما يلزم من العلاج والغذاء والمأوى، والمعروف أن المقعد لا يستطيع العناية بنفسه، والقيام بشؤونه الخاصة، فكان الشيخ بنفسه يقوم على تنظيف الرجل، وتطهير ثيابه، وأغطية فراشه، للمحافظة على كرامة الرجل ونفسيته، ولم يعتمد على أحد من أبنائه، أو على عامل ليساعده، كما خصص وقتا للجلوس مع الرجل لمؤانسته، والتخفيف عنه).

وأما فيما يتعلق بجوده وكرمه فقد أكد المؤلف أن (من الصفات البارزة في حياته رضوان الله عليه كرمه وسعيه لما يسعد الناس، حتى يصل به الأمر للتضحية بمصلحته الشخصية، وله مواقف كثيرة تنم عن رجولة وانجذاب نحو نفع الغير، فكان يقوم بدعم طلاب العلم الأحسائيين في العراق، وكذلك يقوم على مساعدة البعض في شراء البيوت، وتزويج العزاب، إما بدعمه المباشر، أو بسعي منه…).

ومن الصور المشرقة التي نقلها المؤلف في ذلك، أنه جعل بيته (المأوى للباعة والمتسوقين في سوق الأربعاء الأسبوعي، خصوصا في أيام الصيف والهجير، فيستقبلهم بحفاوة، ويقدم لهم الزاد، ويهيئ المكان المناسب للراحة).

وأما برنامجه العبادي فيبدأ بصلاة الليل موصولة بصلاة الصباح، ومن ثم التعقيبات إلى طلوع الشمس فيتناول إفطاره، ثم يتوجه إلى مجلسه في مزرعة (بنت ياسين) فيتلو ما تيسر من الذكر الحكيم، ويؤدي الصلاة جماعة، ثم يلقي كلمة أو موعظة، وله اهتمام خاص بمأتم أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ويقام في بيته مأتم أسبوعي للنساء، ومثله للرجال، ويحرص على إحياء الليالي المقدسة كليلة القدر، ويواظب على الصيام المستحب…فجل وقته في الله ومع الله سبحانه وتعالى.
افتتح المؤلف الفصل الخامس (الشيخ ومجتمعه) بمحاولة تعريف (العمل الاجتماعي) والتأكيد على أن الشيخ المهنا ممن انخرطوا في الخدمة الاجتماعية مبكرا، وهو متسلح في ذلك بالصبر والهمة العالية، ليقسم بعدها عناصر هذا الفصل إلى (نشاطه الديني) وفيه تحدث عن إمامته للجماعة بشيء من التفصيل، وأشار إلى وكالته عن المرجعين الكبيرين (الخوئي والسيستاني) ليختم بالحديث المقتضب عن مشواره مع التدريس، وهو لا يختلف كثيرا عما عرضناه قبل قليل.
وتحت عنوان (رعايته لأوقاف أجداده) أوضح المؤلف أن تلك الأوقاف تصل إلى قرابة (20) مزرعة، وقد آلت إلى الخراب، إلى أن تفرغ لها سماحة الشيخ تفرغا كاملا، فعمل على إحيائها، وإخراج صكوكها، باذلا في ذلك الكثير من وقته وجهده وماله، فقد (جلب عمالة من خارج البلاد للعناية بتلك النخيل، وحفر الآبار، وقام على إيصال التيار الكهربائي لبعضها، ومهد الطرق، وسور النخيل من جميع الجهات…وقد صرف عليها مئات الآلاف من ماله الخاص) ومن أهم أعماله في هذا المجال -حسب رأي المؤلف الشخصي-: (قيامه على تثبيت حدود تلك الأوقاف، وذلك بسعيه على استخراج الصكوك الرسمية لجميع تلك المزارع، وبهذا يكون قد حافظ عليها من التعدي والضياع…).

وفي حديثه عن عناية سماحة الشيخ المهنا بالمسجد والحسينية، أعطى المؤلف نبذة تاريخية عن (مسجد المهنا) منذ بداية تأسيسه سنة 1202هـ على نحو التقريب، إلى أن تم هدمه والقيام ببنائه كاملا من جديد في سنة 1415هـ بإشراف الشيخ المهنا ومتابعته.

كما أعطى نبذة تاريخية عن الحسينية، وبين ما للشيخ من نشاط فيها، منه أن سماحته كان يستقبل الكثيرين من الخطباء وخصوصا الذين هم من خارج المنطقة في بيته (ويوفر لهم المأوى والطعام دون مقابل…).

أما عن (مدرسة الأولاد الصغار) فقد بادر جمع من الفضلاء والمهتمين بالشأن الاجتماعي إلى تأسيسها سنة 1384هـ كان من بينهم الشيخ المهنا (وفي هذه المدرسة كان الأولاد يتلقون دروسهم في الكتابة والحساب والخط بجانب القرآن الكريم…)
وأما عن تأسيس (مكتبة الإمام الصادق) فهي (من الأعمال العلمية الرائدة في تلك الحقبة) وكان مقرها في الحسينية الهاشمية (السادة) بحي الشعبة، وقد تم تأسيسها بدعم متنوع، ومن شرائح متعددة من المجتمع، منهم طلبة العلم ورجال الدين، الذين كان الشيخ المهنا من ضمنهم.

ويرى المؤلف في ختام عرضه لدور الشيخ الاجتماعي أن (تأسيس المدرسة الأهلية والمكتبة العامة خطوة رائعة، تحمل في طياتها الريادة في تاريخ الحي، ولكن يبدو أن هذا المشروع لم يستمر طويلا).

الفصل السادس المعنون (بكلمات وأقلام الآخرين) كان مخصصا لبعض ما قيل أو كتب عن الشيخ، سواء من بعض طلبة العلم وغيرهم، أو من تلامذة الشيخ وغيرهم، وكلها في الإشادة به، والتقدير له، وسرد بعض الذكريات معه، ونقل بعض مواقفه في بعض القضايا والمواضيع، والحديث عن صفاته وقيمه…

ومثله الفصل السابع (الشيخ ونقوشه الجميلة) فهو يسلط الضوء على بعض مواقف الشيخ التي بقيت لأهميتها عالقة في الأذهان، منقوشة في الوجدان، محفورة في القلوب، مثل: اهتمامه بالآخرين، وصدحه بكلمة الحق، وتواصله وبره، وحبه للناس، وحياته العائلية…فهو فصل في الحديث عن مواقفه العملية، وقيمه الأخلاقية على حد سواء، وقد ضمّنه المؤلف بعض مواقفه وذكرياته الخاصة مع سماحته تغمده الله برحمته.
الفصل الثامن (إلى الرفيق الأعلى) كان مؤثرا جدا، وفيه أجاد المؤلف الوصف والتصوير لكل ما يتعلق بحدث الوفاة، ابتداء من ذكر بعض المواقف التي يمكن الاستنتاج منها -ولو على نحو الترجيح- شعور الشيخ بدنو أجله، وقرب رحيله من الدنيا، والتي كان منها أنه كان في السنوات العشر الأخيرة يصوم رمضان عند الإمام الرضا عليه السلام، إلا أنه في سنة 1436هـ أي قبل وفاته بقرابة الخمسة أشهر أصرّ على أن يقضي العشر الأواخر من رمضان في العراق ليجدد العهد بالمعصومين هناك، وسافر من مشهد إلى العراق، وكان يزور المعصومين زيارة مودع، وفي هذه الزيارة تشرف بلقاء السيد السيستاني وأخبره عن كبر سنه وتقدمه في العمر، ورشح له شخصية معينة، واقترح عليه أن يعطيها وكالة شرعية، وقد استجاب السيد لاقتراحه، كما قام بتجديد وصيته قبل (13) يوما من وفاته…إلى غير ذلك مما قام به من أمور.

وفي 17 ربيع الأول 1437هـ دخل المستشفى أثر نوبة سعال حادة وضيق في التنفس، وقد وصف ابنه الحاج حسن حالة أبيه في المستشفى وصفا دقيقا ومؤثرا، ومنه قوله: (…اعتذر الشيخ من بعض العاملين في المستشفى، وطلب منهم أن يسامحوه، كما أرسل أحد أبنائه ليعتذر من المرضى الموجودين في الغرفة، فقد يكون تسبب لهم في إزعاج، وبعد ذلك تشهد وذكر النبي الأكرم والأئمة الأطهار واحدا بعد واحد، مقرا لهم بالإمامة…ثم أدار عينيه فيمن حوله من أبنائه مودعا لهم، وقال: “لقد أثقلت عليكم، ساعدكم الله على هذا الدنيا” وأكثر ما كان يزعج الوالد في المستشفى الطهارة وارتباط ذلك بأداء الصلاة في وقتها، وكانت الصلاة وتأديتها في وقتها همّه، وشغله الشاغل).

وكانت وفاته رحمه الله ليلة الثلاثاء غرة شهر ربيع الثاني 1437هـ وقد تحدث المؤلف عن التشييع المهيب، وعن مجالس العزاء التي أقيمت له في الأحساء وخارجها، كالنجف الأشرف، وكربلاء المقدسة، وقم المقدسة، كما تعرض لحفل الأربعين وما أقيم على هامشه من (معرض للصور، ومتحف مصغر لمتعلقات وصور الفقيد، وكذلك بعض المخطوطات النادرة) ونقل نص كلمة ابنه الحاج حسن التأبينية في حفل الأربعين، كما تحدث عن الذكرى السنوية الأولى لرحيله، ووضع كلمة سماحة الشيخ حسين بن الملا كاظم بو خضر بهذه المناسبة في الكتاب، كما وضع برقية تعزية مكتب المرجع السيد السيستاني المؤرخة 1 ربيع الثاني 1437هـ أي في يوم الوفاة وقبل الدفن، والمرسلة إلى أولاد الشيخ، وفيها بعد التحية والسلام: (فقد تلقى سماحة السيد السيستاني دام ظله ببالغ الأسى والأسف نبأ وفاة والدكم العلامة الجليل، الورع التقي، الشيخ محمد المهنا طاب ثراه، بعد عمر حافل بالعطاء في سبيل ترويج الدين، وخدمة المؤمنين…).

وأكتفي من هذا العرض بهذه التعزية حتى لا أطيل أكثر مما أطلت، وفقط أود أن أشير إلى أن لهذا الكتاب قيمته الخاصة بين كتب السير والتراجم، لأنه -بحسب علمي- الكتاب الوحيد في ترجمة حياة الشيخ المهنا وعرض سيرته الطيبة المباركة، وواضح أن المؤلف الكريم بذل جهودا كبيرة جدا في جمع معلوماته أولا، وتنظيمها ثانيا، وعرضها في هذا الكتاب ثالثا، خصوصا وأنه لا توجد مصادر لترجمة الشيخ ليستعين بها، وجل اعتماده كان على اللقاءات والتاريخ الشفهي، وكلنا نعلم ما في ذلك من صعوبة بالغة سواء، في كثرة الاعتذارات، أو تنظيم مواعيد اللقاءات، أو استعادة الذكريات، أو تسجيل المعلومات، أو إعادة الصياغات، أو جمع القصائد والكلمات…إلا أن المؤلف الكريم تحمل ذلك كله بهمة العالية، وعزيمة قوية، وصبر كبير، وهذا جهد جبار يجب أن يسجل له بكل الشكر والتقدير، خصوصا وأنه -رغم كل تلك الصعوبات- إلا أنه حاول جهده أن لا يغادر صغيرة ولا كبيرة متعلقة بالشيخ إلا أحصاها في هذا الكتاب، كما يجب أن نثمن ونقدر له عدم تنكره لكل من عاونه في عمله هذا، فقد افتتح كتابه بتسجيل كلمة شكر وعرفان لأبناء الشيخ المهنا لسعة صدورهم وتحملهم له في لقاءاته بهم، وطرح أسئلته عليهم، واستقاء بعض المعلومات منهم، وشكر آخر لسماحة السيد حسين بن المقدس السيد محمد العلي لتفاعله مع الموضوع، ومراجعته لمسودة الكتاب، رغم ظروفه الصحية حينها، وامتنان خاص للأستاذ جمعة بن علي المهنا لمراجعته اللغوية، ومساعدته في تلافي بعض الأخطاء، وتسجيله بعض الملحوظات حول الكتاب.

كما أود التذكير بما نوهت إليه في الافتتاح، من أن كل ما كتبته هنا إنما هو محاولة متواضعة في عرض الكتاب، والتعريف بما يضمه بين دفتيه، وليس دراسة نقدية له، ولا أخفي أن لدي بعض الملحوظات النقدية التي لا أدعي صحتها، لكنني أعرض عن ذكرها لأنني بصدد العرض وليس النقد.

وأختم بالإشارة إلى أنني قمت بهذا العرض -إضافة لما لهذا الكتاب من أهمية في توثيق حياة الشيخ المهنا كما أشرت- أيضا من باب الوفاء ورد الجميل والمعروف، فالمؤلف الكريم لم يقم بإهدائي هذا الكتاب وكتابه الآخر (المدرسة الأولى وسبعون عاما من الإشراق) بالطريقة التقليدية المعتادة في إهداء المؤلفين لمؤلفاتهم لهذا أو ذاك من منطلق الصداقة، أو المجاملة، أو ما جرت عليه العادة…وإنما أهداني إياه اعتقادا منه -كما يقول هو- أنني ممن بارك الله لهم في وقتهم، بدليل أنه يراني في أكثر من نشاط ونشاط، وأنه -يهديني هذين الكتابين ليكونا رمزا للشكر، وتقديرا لتلك الإنجازات، وقد شفع هذا الإهداء بكلمة تقديرية، قام ولدي (عقيل) بتصويرها بجواله، توثيقا للحدث، ولتكون من الذكريات الجميلة في هذه الحياة.

وإني إذ أشكر لمهندسنا الغالي (أبي محمد) حسن ظنه، وجميل ثناءه، وما أكرمني به من تقديره وإهدائه، فإنني أعترف (صادقا) أنني دون ظنه بي بكثير، وكم آمل أن يأتي يوم أصل فيه إلى ذلك المقام الذي رفعني إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى