أقلام

الكنار (النبق)

أمير الصالح

كنت في طفولتي ضمن أبناء الجيل الذي قطف ثمرة الكنار من شجر السدر المتدلية غصونها خارج بساتين متناثرة في واحة الأحساء الوادعة. ومن أبناء الجيل الذي مشى بين النخيل الباسقات على امتداد القرى الشمالية والشرقية في واحة الأحساء حيث قرى البطالية والقارة والتويثير والدالوة والجبيل والحليلة وبني معن والمنيزلة والجفر بقصد التنزه أوالترويح عن النفس أو استذكار الدروس أيام الاختبارات النهائية. وكنت في طفولتي عاصرت تناول الناس منتجات خيرات ارض الاحساء التي اشتملت على كل شيء حتى الخوج والتفاح والعنب والتوت الرمان وقصب السكر والأرز والبصل ومنتجات الألبان واللحوم بكل أصنافها، مما يقترب من صفة الاكتفاء الذاتي في السلة الغدائية. كنت من جيل من استحم بمياه عيون طبيعية وفيرة : مثل عين الجوهرية وأم سبعة والحارة وأم خريسان والخدود حيث وفرة المياه الجوفية آنذاك وسلاسة تدفقها.
وكنت في طفولتي من جيل أوائل من لاحظ وجود الرجل الأبيض الأمريكي ذي العيون الزرقاء الفارع الطول القادم من أعالي البحار للتنقيب واستخراج النفط في ربوع واحة الأحساء وأطرافها حيث ملك ملوك الحقول النفطية كما يلقبه البعض: حقل الغوار المبجل ؛ وهو الحقل النفطي الأكثر إنتاجاً ومخزوناً في العالم .كنت في طفولتي أشاهد روح البشاشة في وجوه المتسوقين في سوق القيصرية بقلب الهفوف وأسمع الكثير من الجمل المعبرة عن الثناء والإطراء المتبادل والتسامح الكبير في البيع والشراء، والامتنان لكل فعل حسن بين المتبضعين والباعة في الأسواق.
في تلكم الأيام، أي سبعينات القرن الماضي، مع قلة الموارد المالية لدى الأغلب من الناس وتواضع استهلاك كمية الكهرباء في المنازل، وتدني مستوى صناعة الترفيه، وقلة وسائل النقل الحديثة، وقيام الناس بمعظم المهام المنزلية يدوياً، إلا أنها كانت بحق أياماً جميلة وحياة مفعمة بالراحة النفسية الكبيرة والسكينة والطمانينة والنشاط والحيوية وتناغم الإنسان مع الطبيعة من حوله، وسيادة روح التفاهم بين كل الأعراق القاطنة في واحة الأحساء الحبيبة. هكذا صور جميلة عن مسقط رأسي ماتزال عالقة في ذهني وتلوح تلكم الصور بين الحين والآخر، ولا سيما عندما أسمع اسم مسقط رأسي وموطني (الأحساء) سواء في نشرات الأخبار، أو معارض التمور، أو معارض الحرف اليدوية التي تُعقد في أنحاء العالم، أو مؤتمرات النفط الدولية، أو عند إطلاق النشرات الدورية عن دراسات المخزون الإستراتيجي للطاقة في العالم، أو إدراج قائمة المشاريع العملاقة في مجال النفط والطاقة، أو دراسات جودة المياة الجوفية ومخزونها، أو إطلاق برامج السياحة الوطنية، أو تصفيات مسابقة أمير الشعراء، أو قصص رواد فنون الإدارة. فالأحساء بالنسبة إلي أقرب إلى موزاييك بشري فاعل ومتناسق وجميل بجمال جميع أهله ذوي الطعم الخنين الذي يتذوقه كل من له عمق من مشاعر إنسانية نبيلة تتخطى حواجز محور الذات والنرجسية والأنانية. بحمد الله، كل المناطق ولادة نجباء. ونجباء واحة الأحساء لهم في كل عرس قرص وكل زمن ذكر. فكانت وماتزال واحة الأحساء نعم الخزان البشري في ارض الوطن.

مع طول فترة زمن إغلاق الحدود كإجراء احترازي صحي من قبل الجهات الرسمية، أخذ معظم أبناء الوطن يُفتشون عن محطات سفر داخل بلادنا الحبيبة بهدف الاستجمام والاسترخاء وتجديد الحيوية والترويح عن النفس. وبالفعل انتعش السوق السياحي الداخلي بشكل مشجع وواعد، ونتطلع للمزيد من النجاح لهذا القطاع في قادم الشهور والسنين بإذن الله العلي القدير.
وكانت وما تزال واحة الأحساء في أعلى قائمة المحطات السياحة الداخلية التي يرتادها سياح الداخل لما تتمتع به من خصائص في الإنسان والبيئة والموقع، إلى جانب زهد الأسعار. ففي مجال البيئة هناك : مسطحات خضراء كبيرة إلى جانب الصحاري الممتدة والشواطئ الغضة النظيفة وسلسلة جبال رسوبية مترامية، وطقس شبة معتدل يمتد لثمانية أشهر تقريباً من كل عام (من شهر أكتوبر – حتى شهر مارس) وأسواق تاريخية وشعبية متعددة، ومطبخ أحسائي مميز بنكهاته المتنوعة، وصناعات غذائية محلية متعددة، وصناعة في مجال صياغة الذهب،
وصناعات يدوية احترافية، وحياكة بشوت ذائعة الصيت. في مجال الخدمات، هناك : منتجعات متنوعة الدرجات والأسعار، إلى جانب الفنادق متعددة النجوم تجعل كل طبقات الزائرين يسعدون بأوقاتهم دونما أي إرباك في ميزانياتهم المالية. وحس خدماتي مميز، وضيافة رائعة حيثما يحل الزائر، وروح بشوشة. إنسان الواحة محل احترام الجميع لما يتحلى به من: بشاشة وجه وطلاقة ابتسامته وترحاب شعبي للزائرين والسياح ملفت للتقدير والتبجيل، وهذا ليس بغريب فهم من أكثر شعوب الأرض مسالمة وحب وتعلق بنبي الرحمة. إلى جانب خصوبة الأحساء بالشعراء والأدباء والكتاب والرسامون والنحاتون وتحيا فيها الكثير من الأنشطة الأدبية التي يصعب سردها هنا.

وهنا أتوقف لأشيد بجهود المخلصين من منسوبي الجهات المعنية.
ونتطلع وإياكم لتذليل كل الصعاب للمؤسسات
والشركات ذات العلاقة لزيادة معدل السياح لإقليم الأحساء.
ونتطلع في الوقت ذاته أن تمهد كل السبل ليعود المزيد من المزارعين إلى محراثهم من أجل زيادة رقعة المسطحات الخضراء، وخلق متنفسات ورئات بيئة أجمل، وتسهيل منحهم المزيد من الأراضي للزراعة والإنتاج الزراعي. قبل الختام، في ظل تحفيز زراعة المزيد من النخيل والمنتجات الزراعية في الواحة التي طالما اشتهر أبناؤها بفنون الزراعة والصناعة الغذائية المشتقة منها، والدماثة الأخلاقية في التعامل فإني أناشد أكبر قدر من المزارعين المحليين للرجوع إلى محراثهم، فهم من كانوا نعم العون والمدد بخيرات الأرض بعد تقطع الإمدادات لفترات وقت ذروة الجائحة.
ختاماً، إن توطين قطاع الزراعة سواء الزراعية أو السمكية يعني استقطابات أكثر وسوق محلي أكبر وتدوير أكبر للعملة داخل الوطن. وهذا يتطابق وأهداف برامج ” صنع في المملكة العربية السعودية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى