أقلام

وصايا نبوية

السيد فاضل آل درويش

ورد عن أبي جعفر (ع) قال: أتى رسول الله (ص) رجل فقال: علمني يا رسول الله، فقال: عليك باليأس عما في أيدي الناس فإنه الغنى الحاضر، قال: زدني يا رسول الله، قال: إياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، قال: زدني يا رسول الله، قال: إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته)(المحاسن ج ١ ص ١٦).

ما أجمل تلك اللحظات التي يشخص فيها من يتلقى الوحي والمعارف والتسديد من رب السماء ما يحتاجه الإنسان في حياته العملية من توجيهات وتنبيهات على تلك الومضات الإيجابية التي تساعده على بلوغ أعلى درجات المجد والتكامل والبصيرة، وفي المقابل هناك تحذيرات من مواطن السقطات وحفر الهاوية التي تلقي بمن اتبع الأهواء والشهوات الاتباع الأعمى، فالمرء يقدم على هذه الدنيا بما تحمله من أوهام وشبهات وانحرافات تودي به إلى طريق الضلال والضياع، فالرسول الأكرم (ص) يقدم لنا قبسًا مضيئًا من المعارف والسلوكيات التي تفتح بصيرتنا وتنور عقولنا وتهدينا في دروب الحياة المعقدة والمظلمة وتؤسس لمستقبل مستقر وقوي.

كما أن صناعة الشخصية الواثقة بنفسها، التي يتحمل صاحبها مسئولية المهام الملقاة على عاتقه لتحقيق تطلعاته وأهدافه، يمكن فعل ذلك من خلال اكتساب مقومات القوة والاقتدار في ساحة المواجهات والتحديات، وهذا الرسول الأكرم (ص) في هذه التحفة السنية يقدم لنا أهم معالم الثبات والاستقامة في شخصية الإنسان، وهذه الومضات مذكورة على سبيل الاختصار وإلا فهناك قيم ومباديء أخرى تمثل وجها مشرقًا في الشخصية.

وهذا الاستنصاح أضحى سيرة عملية في حياة العلماء الحكماء ممن عجنتهم الحياة وعصرتهم في طريق الجد والاجتهاد، فيقدمون في مجالسهم العلمية وكتاباتهم نصائح على مستوى مختلف الصعد الايمانية والعقائدية والأخلاقية والقرآنية والثقافية، مستنين بسنة الرسول الأكرم (ص) بتقديم مختصرات بلاغية تعيها العقول على مختلف مستوياتها (مراعاة الفروق الفردية)، تتعلق تلك التوجيهات العلمائية بمختلف جوانب التقدم والازدهار في المدارك العقلية والرفعة السلوكية، فهذه الحياة ملأى بصنوف الخدع والمكاره التي ينبغي بيان حقيقتها وكيفية الحذر من الوقوع فيها، كما أن مجرباتهم وخبراتهم تعد قواعد ذهبية يقدمونها في خلاصات تنفع المرء في مواجهة آفات النفس والرذائل الأخلاقية.
والتوجيه الأول يتعلق بالقناعة بالرزق والتنبه من خطر الوقوع في المقارنات مع أحوال الناس الموسرة ماديًّا، فذلك يتحول مع مرور الأيام إلى شعور بالحنق تجاههم وتستحكم الكراهية والأحقاد، فمما يوطن الأمراض النفسية هو التطلع لما يمتلكه الآخرون من شهادات نجاح وتفوق في مسيرتهم أو ما يمتلكونه من قدرة مالية جعلتهم يعيشون السعة أو الرفاهية، وقد حذرنا القرآن الكريم من هذا التطلع بعين الحسد في قصة قارون ونظرة الناس الماديين لما يمتلكه من ثروات هائلة، فقد امتلأت قلوبهم بالأماني الفارغة فظنوا السعادة – كل السعادة – بالحصول على الثروات، بينما السعادة الحقيقية – والتي يؤكد عليها الهدي النبوي – قطع النظر المعبر عنه باليأس عما في أيدي الناس، والقبول والرضا بما قسمه الله عز وجل له من توفيق و رزق، فالغنى ليس بامتلاك الأموال بل هو غنى النفس التي تعتز بكرامتها وعزتها مهما كانت المغريات أو الضغوط من أجل تغيير مبادئها.

والوصية النبوية الثانية تتعلق بطريقة التفكير الصائبة والنظرة الواقعية للأمور بعيدًا عن المثالية أو التسرع، فالنظر للعواقب والتدبر والتأمل في النتائج المترتبة على أي خطوة أو قرار يتخذه، وما أحوجنا لإرهاف السمع والإنصات لهذا الصوت الرائع الداعي للحكمة والوعي وتحمل المسئولية في كل ما نقدم عليه بعيدًا عن الجهالة والعناد والعصبية والمكابرة على الحق، فالشاب والفتاة لو تلقى هذه الومضة – النظر للنتائج والاحتمالات – قبل أن يقدم على الحديث بأي كلمة أو اتخاذ قرار في دراسته أو التخطيط لمستقبله أو على مستوى علاقاته الأسرية أو الاجتماعية، لأصبحوا على أعلى درجات المنطقية في كل ما يتخذونه من مسارات في حياتهم، فقد اكتوت علاقاتنا بنار الخصومة والقطيعة والمشاحنات الناجمة عن تدهورها بسبب لحظة انفعال غاب فيها العقل فاتخذ كل طرف قرارًا بالمقاطعة!!

والوصية النبوية الآخيرة هي التحذير من المرض الأخلاقي (الطمع) وهي تلك الرغبة الجامحة واللهاث الشديد للحصول على أكبر قدر من مظاهر الدنيا من ثروات وجاه، فيتحول المرء إلى آلة تستحث الخطى نحو المزيد من الأموال دون توقف، والرسول الأكرم (ص) يحذر من هذا السقوط الأخلاقي من خلال بيان أحد آثاره على الإنسان، فالطمع فقر حاضر بمعنى أن الطماع يستخسر دفع المال على أهله ويعيشون معه حياة الحرص والشح، ولا يكف الطمع عن النفس سوى القناعة بالرزق والرضا بما يحصل عليه مع الاهتمام بتوفير مستلزمات الحياة الكريمة لأسرته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى