أقلام

وعكة صحية

إيمان الموسى

عندما أصبت بوعكة صحية (شعور عام باعتلال واضطراب الصحة) اتجهت للمستشفى طلبًا لإجراء بعض الفحوصات الرتيبة، فقال لي الطبيب إني أشك في شئ رأيته وسنتأكد منه بإعادة الفحوصات مرة أخرى.

وتمت إعادة الفحوصات ثلاث مرات وبانتظار النتائج تسرب القلق وتثاقل نبض قلبي، وتلاطمت الأفكار في رأسي، وانشلت توقعاتي عندما أخبرني الطبيب بضرورة إجراء

عملية جراحية حالًا فهو تأكد وصدقت ظنونه وكانت في محلها.

عندما أمسك نتائج الأشعة رفع سماعة الهاتف وقال: الآن يجب أن تدخل مريضتي الطوارئ وسنجري لها عملية حالًا، والتفت إليّ وأخبرني بما رآه، فشعرت لحظتها بجفاف منابع الدم في عروقي تدريجيًا وبرودة أطرافي وشعرت بثقل وكأن صخرة هبطت على جسدي وهو يشرح لي عن هذه العملية الصعبة والحساسة في ظهري داخل الحبل الشوكي، وأنه يحتمل عدم المشي أو الشلل إذا كان ما رآه ورمًا خبيثًا، ولن نعرف نتائجها إلا بعد العملية، في تلك اللحظه تناثرت روحي وبقيت سجينه لتلك الكلمات، رأيت الموت أمامي ووداعي لأبنائي، آه بركان من التفكير وخيالات تصورتها وأنا أتهيأ للعملية، فتخيلت أيدي أحبتي تقلبني على المغتسل، وروحي تطير في الهواء، أنظر إلى الأهل والأحبة يبكون وهم يهيلون التراب على جسدي في القبر. كنت خائفة من الموت ويملؤني تضارب مشاعر متعلقة بالحياة وتحدي الموت، قلت لنفسي لعلي أدخل غرفة العمليات ولا أخرج منها. طلبت من الممرضة ورقة وقلمًا، وكتبت وصيتي الأخيرة. امتزج فيها الحبر بالدموع وهي تتساقط كالمطر على الورق، وانطلق قلمي كفرس جامح، وهو يتألم بشجاعة، وعبارات يأس، ووداع بنور خافت، كتبت والأحرف تتراقص بين عيني المملؤه بالدموع، وكأني أخر مرة أمسك فيها قلمًا مودعًا للحياة. لم أشعر بالوقت من حولي إلى أن جاءت الممرضة تنبهني أنه حان دوري ولنسحب سريرك إلى غرفة العمليات..، ياالله.. هل الموت يناديني؟؟

أهي ساعاتي الأخيرة في هذه الدنيا وكأنه شريط فيديو سريع تمت إعادته لأرى نفسي منذ أن وعيت على هذه الحياة.. إلى تلك اللحظة التي وجدت نفسي أقف فيها عاجزة ومشلولة ومكتوفة اليدين أمام قدرة (الله الجبار، ولطفه) إن كان سيكتب لي عمرًا جديدًا، لهج لساني بالدعوات والاستغفار ودعيت الله ووكلته نفسي حتى غبت عن الوعي.

ظننت بأني لن أفيق أبدًا، سمعت صوت أبي وإخوتي وولدي البكر ينادونني: أفيقي هيا.. هيا الحمد الله على السلامة!

جاء الطبيب وقال: تكللت العملية بالنجاح والحمد لله

أنتِ في أمان الله وحفظه ولكِ أن ترتاحي بعض الأيام، وستعودين مع أهلك إلى البيت وستسترجعين قواك شيئًا فشيئًا حتى يرجع لك نشاطك وحركتك السابقة.

نظرت للغرفة ولسريري الأبيض وتخيلته كفني ولمن حولي وهم فرقتين، فرقة يتحدثون ويخففون عني ويواسونني وفرقه تهتم بي! ولست أدري ليلي من نهاري! بينما أفيق تارة وأنام تارة حتى بقيت على هذه الحال بعض الأيام، وجسدي واهن وضعيف، أما لساني فكان يلهج بذكر الله وطلب الشفاء لجميع المرضى ولن يشعر بمعاناتهم إلا من سكن أقبية المستشفى، وقاتل الموت، وتشبث بشعرة الأمل، وإعادة النظر بأيامنا المتبقية لعلها تكون ساعات أو دقائق فنفارق الحياة.

ومن يدري بتعدد أسباب الموت، لعل الروح تغادر فتصيب بقذيفة حرب، أو تنقلب سيارتك وأنت في طريقك للعودة وتتحول إلى قطعة من اللحم، أو ربما يتم التشخيص بحالة تسمم، أو سكتة قلبية.. لنتأكد أن معظم الذين ماتوا كانوا يظنون أنهم سيعيشون غدًا.

بعدما قضيت شهرًا بالمسشتفى رجعت للبيت وبدأت رحلة التشافي والعلاج الطبيعي الذي أخذ مني وقتًا طويلًا.

وللترويح عن نفسي وما مررت به قرأت بعض الكلمات عن الموت بأسلوب ساخر وأحببت إدراجها،

وكعادتي أجد هوى في نفسي يجذبني لأتناول المواقف والأحداث من حولي بأسلوب ساخر حتى أثناء رحلة التشافي من المرض.

جذبني قول الكاتب (طملية) الأردني الساخر المضحك..( متنا بما فيه الكفاية، ونموت يوميًا، ولكن المثير للسخط هو أن موتنا ما يزال بدائيًا ومتخلفًا ويحدث بسهولة متناهية، وبما يوحي أننا عجزنا عن تكديس خبرات مفيده في هذا المجال:

وكأننا نموت للمرة الأولى!!

أما من فوائد الوعكه الصحية استخدمها بعض الكتاب في المقال الساخر المضحك المبكي الذي يتناول الألم بفكاهه فكان الكاتب العراقي علي الوردي (صاحب مقال من الحمير إلى.. الجامبو ) فكان يسافر في بداياته على ظهر الحمير ثم أتيح له السفر بطائرة جامبو.. عندما يتحدث في الندوات وإذا به يشعر بخوف يعرضه لسين وجيم يقطع محاضرته ويقول:

عذرًا.. أنا أعاني من وعكة صحية.

أما الكاتب المصري الساخر (عاصم حنفي) تخيل بحسه الفكاهي في الموت وكتب: أرسل الرحمات على أميرة القلوب ديانا وأتخيلها تنتفض غيضًا في مرقدها وقد صارت غريمتها ضرتها ملكة إنجلترا.

أيضًا عندما كانت توضع لي أطباق الطعام المسلوقه أثناء المرض تذكرت كتاب الكاتب ( محمود السعدني)

(( وداعًا للطواجن ))

فقال: طاجن الحاج سرور تأكله أحيانًا فتنام وتأكله أحيانًا فتموت..سيظل المعلم سرور سبب حبه للطواجن التي لو ذاقها رجل إنجليزي مات في الحال، فطواجنه من اللحم الكندوز الغارق في مغرفتين سمنه بلدي وحقل بصل صعيدي والعشرات من الفليفلات الحارة التي كانت هي السبب الرئيس في علل إصابة السعدني، وأدت به إلى المسلوق فقط.

والآن وصلت لنهاية مقالي لأخرج بفائدة الوعكات الصحية إن قدر لنا الخروج منها، فإن الموت لا يخطئ فريسته ولن يتراجع أبدًا، ولكن المحظوظ من ضاعف الطاعات، وتدارك الأخطاء، وسهر على التهجد والصلاة، وداوم على الاستغفار، وأطرب نفسه بتلاوة آيات القرآن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى