أقلام

ملح العلماء والشعراء

إبراهيم بوخمسين

ما أجمل أن تتنقل بين أبابيل الشعر، ودواوينه، وكتبه، وتتعرف على ملحه وجماله، وتقطف لك من كل بستان زهرة، ومن كل حديقة وردة. وما أكثرها، وإن كتب الشعر وموسوعاته لتعج بها فتحتار من أيها تقطف ومن أيها تتذوق قديمها وحديثها. ولقد أخترنا لك من جواهرها وفرائدها ما نطمع أن يلامس ذوقك ويروّح عن قلبك، فنرجوا أن نكون قد وفقنا لاختيار الشجرة وقطف الثمرة، فاخترنا من مليح العلماء والشعراء مقتطفات ومساجلات يأنس لها الوجدان ويسكن لها الجَنَان.

قرات لك في كتاب الكشكول الهجري:
في باب طرائف وظرائف، قيل إن رجلًا كانت عنده ابنة جميلة تزوجها رجل من أهل النعم وأحبته، فلم تلبث معه إلا قليلٍا حتى مات، فحزنت عليه حزنًا شديدًا، وكانت تدخل بستانٍا لأبيها تخلو فيه وتبكي وتنشد هذه الأبيات:
إنما أبـكي لإلف خانه الـدهر فمات … قلت للدهر بشجـو أيها الدهر أسأت
لم تركت الأم والأب وبالإلف بدأت …
إنه أحسن خلق كان لي في الخلوات

ففطن لها أبوها وسمعها تردد الأبيات، فقال لها: ما كنت تقولين يا بنية؟ فقالت يا أبتي وجدت الماء قد قلّ ولحق النخل العطش، فلما رأيت ذلك أحزنني فأنشدت:
إنـما ابكي لـنخـل خانــه الـماء فــمـات … قـلت للـماء بشجـو أيها الماء أسات
لم تركت الزرع والكرم وبالنخل بدأت … إنه أحسن شيء كان لي في الثمرات

وقرأت لك أيضا فيه: العباس بن الأحنف والجارية العاشقة:
قال العباس بن الأحنف بينا أنا في الطواف إذا بجوارٍ أتراب، فلما أبصرنني قلن: هذا العباس؛ ودنت إلي إحداهن، فقالت: يا عباس! أنت القائل:
ماذا لـقـيـت من الهـوى وعـذابه … طلـعـت علي بـلـية من بـابه
قلت: نعم! قالت: كذبت، لو كنت كذاك كنت كأنا، ثم كشفت عن أشاجع مُعـراة من اللحم، وأنشأت تقول:
ولما شكـوت الحـب قالت: كذبتني، … فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا
فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا، … وتخرس، حـتى لا تـجـيـب المناديا

وقرأت لك من كتاب طبقات الشافعية الكبرى: قال حدثنا الحسن بن سعيد بن جعفر حدثنا أبو زرارة الحراني قال سمعت الربيع بن سليمان يقول: كنت عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة فقرأها ووقع فيها فمضى الرجل، وتبعته إلى باب المسجد فقلت والله لا تفوتني فتيا الشافعي فأخذت الرقعة من يده، فوجدت فيها
سل المفـتي المكي هل في تـزاور … وضمة مشتـاق الـفـؤاد جـناح
فإذا قد وقع الشافعي:
فـقـلت مـعـاذ الله أن يذهـب الـتقى … تـلاصق أكـباد بـهـن جراح
قال الربيع فأنكرت على الشافعي أن يفتي لحدث بمثل هذا فقلت يا أبا عبد الله تفتي بمثل هذا لمثل هذا الشاب؟ فقال لي يا أبا محمد هذا رجل هاشمي قد عرس في هذا الشهر يعني شهر رمضان وهو حدث السن فسأل هل عليه جناح أن يقبل أو يضم من غير وطء فأفتيته بهذا، قال الربيع فتبعت الشاب فسألته عن حاله فذكر لي أنه مثل ما قال الشافعي. قال فما رأيت فراسة أحسن منها.

وقرأت لك من كتاب حكاية الينابيع للشاعر ناجي بن داود الحرز:
ومن مشاغباتنا مع الشاعر زكي السالم التي لا تنتهي.. هذه الأبيات التي أرسلتها إليه عبر الهاتف وأنا في الطريق لزيارته في قريته ” بني معن:
يا مـرحـباً ألـفًـا وألـفًـا … إنْ جئت أو إنْ رحت خلْفاَ
فـلـقـد فـتـقـتَ مرارتي … وشطـفـتـني بـهـواك شطْفا
الآن جـئـتُ إلى” بـني … معنٍ ” من الـهـفـوف زحْفا

فعاجلني بهذه الأبيات وكأنه يرد الزيارة في عالمٍ افتراضي:
طـير الـمـودة منـك رفَّا … وإلى فــؤادي الصـبِّ هــفَّا
فـوجدتـني أعـدو إلـيكم … شــفّـــني الـتـــبـريـح شـــفَّا
حتى بلغتُ دياركم … فافتح لي ” البستان ” ” تكفى “!!

وقرأت لك من كتاب جاسم الصحيح خرج إلى الشعر ولم يعد للدكتور حسين سرمك: اللحم المقدس مرة أخرى” لحم اللغة:
ولكن مقابل تفاحة اللحم الباذخ هذه التي تسببت في طردنا من الفردوس المنعم المطعم الحاني، تلعب أصابع جاسم الماهرة على أوتار جسد مقابل.. تفاحة لغة.. لحم من الكلمات.. هنا يقوم الشاعر بـ ” تعشيق اللغة” حيث يشحن الكلمات والحروف وحتى علامات الترقيم بطاقة حسية ولأحيانا جنسية هائلة.. ومنا أستعيد أطروحة مركزية لـ ” معلم فينا” وهي أن جزءًا كبيرًا من أصل اللغة ” جنسي ” وأعتقد أنها نشأت كإنجاز أمومي أولًا والأم راكعة عند رأس مهد رضيعها الصغير، ثم لإخفاء الرغبة الجنسية حين يعود الأب العاشق ليلا:
ما بال ” تائِــ ” ـــكِ لم تزل ” مربوطة ”
من جيـــدها بعباءة وحجابِ
فكِّي سلاسلها التي انعقدت على
كونٍ بنوبات الفنون مصاب
وقفي أمامي كي أنزِّه قامتي
في الأفق بين منارة وقباب
ثم ” أعربي ” جسدي بأجمل ” ضمّةٍ ”
للشوق تكشف حكمة “الإعرابِ ”

وقرأت لك من العقد الفريد لأحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي، الجزء السادس ” كتاب الزمردة “:
حدث دعبل الشاعر أنه اجتمع هو ومسلم وأبو الشيص وأبو نواس في مجلس، فقال لهم أبو نواس: إن مجلسنا هذا قد شهر باجتماعنا فيه، ولهذا اليوم ما بعده فليأت كلّ واحد منكم بأحسن ما قال فلينشده. فأنشده أبو الشيص فقال:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي …
مـتـأخّــر عــنــه ولا مــتـقــدّم

أجــــد الــملامة في هــواك لــذيــذة …
حــبّا لــذكرك فـلــيلـمني اللّوم

وأهـنـتــني فأهـنـت نـفـسي صاغرا …
ما من يهـون عـليك ممن أكرم

أشــبـهت أعــدائي فـصرت أحـبّـهم … إذ كان حظّي منك حظّي منهم

قال: فجعل أبو نواس يعجب من حسن الشعر حتى ما كاد ينقضي عجبه، ثم أنشده مسلم أبياتًا من شعره الذي يقول فيه:

فأقسم أنسى الدّاعيات إلى الصّبا …
يـمـينا وقد فاجأت والسّـتر واقع

فـغـطّت بأيـديها ثـمار نحــورها …
كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع

قال دعبل: فقال لي أبو نواس: هات أبا علي، وكأني بك قد جئتنا بأم القلادة فقلت: يا سيدي، ومن يباهيك بها غيري فأنشدته:

أين الشّـبــاب وأيّـــة ســلـــكا … أم أين يــطـلب ضـلّ أم هـلـكا

لا تــعـجـبي يا سلم من رجل … ضحـك الـمشـيب برأسه فبكى

يا ليت شعري كيف صبركما … يـا صاحـبيّ إذا دمـي ســفــكا

لا تــطــلـبا بـظــلامتي أحـدا … قلبي وطرفي في دمي اشتركا

ثم سألناه أن ينشد، فأنشد أبو نواس:

لا تـبك هـندا ولا تـطرب إلى دعـد … واشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها … وجـــدت حــمــرتـها في العـيـن والخــدّ

فالخـمـر ياقــوتة والكـأس لـؤلــؤة … في كــــــفّ جــارية مـمشــوقــة الــقـــدّ

تسقيك من عينها خمرا ومن يدها … خـــمرا، فـمـالك من ســـكريــن من بـــدّ

لي نــشـوتـان ولـلـّنـدمان واحــدة … شيء خــصصت بـه من بـيـنــهم وحدي

فقاموا كلهم فسجدوا له؛ فقال: أفعلتموها أعجميّة؟ لا كلمتكم ثلاثا ولا ثلاثا ولا ثلاثا! ثم قال: تسعة أيام في هجر الإخوان كثير، وفي هجر بعض يوم استصلاح للفساد وعقوبة على الهفوة. ثم التفت فقال: أعلمتم أن حكيما عتب على حكيم، فكتب المعتوب عليه إلى العاتب: يا أخي، إن أيام العمر أقلّ من أن تحتمل الهجر.
…..
وقرأت لك في ديوان الأمير شكيب أرسلان:
بينما أنا ذاهب من سورية إلى الأستانة مبعوثًا عن حوران في أيام الحرب العامة، نزلت ضيفًا في طرسوس على سعادة الشهم الأمثل محمد بك راسم من كبار أعيان مصر المقيم هناك، وكانت حصلت حادثة على فتاة حسناء تشتغل في معمله القطني، وضُويقت الفتاة لأجل جمالها، والبك المشار إليه لا يعلم بالواقع، فلما بلغه الخبر امتعض ومنع من التعرض لها وجعلها في مأمن من سطوة العاشق، وصادف وجودي هناك، فقلت على سبيل المداعبة:
أقسمتُ إذ طلـعت عليَّ شـموسها … وزهت بها الأرجاء وهي عروسها

أعلى محــلٍّ في الجــمال مـحلــها … وبها فأجـمل بــلــدة طــرســوســـها

لم أحــســدِ الــعــشاق إلا واحـــدًا … أحــظاه رب الـعــرش فهو جليسها

في مــجــلسٍ يدع الحلـيم مرنــحًا … سيَّــان فــيه لـحـاظها وكُــئُــوســـها

ما إن رأتـها مــهجــــةٌ إلا فـدت … ذاك الـــمحــيَّا نــفـسها ونــفــيـسها

ومن العجــائب وهي ريمة رامـة … تعـنـو لــها غُلْب الرجال وشـوسـها

إلى أن يقول:
مضي لها في الغَزْل بِيضُ أنامـلٍ … ظَلَم الذي هـو بالحرير يقيسها

القــطـن يهـزأ بالـدِّمَــقْس بكــفـها … والخز ودَّ لــو انَّـه مـلـمـوسها

في الغـزل أصـبـح شغلها ولنا به … متحركًا قطعٌ تضيق طروسـها

أحـببـتُ عـيسى والصليبَ لأجلها … حتى يـكـاد يــؤمُّ بي قـســيسها

وأخالــف الشـيـخ الـتمـيـميَّ الذي … ما كان يُـطرِب سمعَهُ ناقوسُها

لو كان شاهَــد وجهها وعـفـافــهـا … مـع حسـنها ما آدَهُ تــقــديـــسها

أقول والقصيدة جميلة وتطلب من ديوانه اقتطفنا منها لمحل الشاهد.

وكانت صورة هذه القصيدة وصلت إلى الشام، فبعث إليَّ الأديب الكبير خليل بك مردم بك من سراة دمشق بالأبيات التالية على سبيل المداعبة:
ما للصـبابةِ مـنك هاج رسـيسها … ولــنار قـلبــك عاد فــيه حسيسها

عهدي بقـلـبك والأوانس والدُّمى … لا تــستـبـيه سُعـــادُها ولــميسها

شمـست عن الـتهيام نفسُك يافعًا … هل رِيض بعد الأربعين شموسها

لله فــاتــنــة تمـلَّـكُ قــــلـــبَ مَن … تُحـنَى لديه من الرجال رؤوسها

فـعــلت به ألحـاظُها ما قــصَّـرت … عن فــعـله أقــداحُها وكــئُوســـها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى