أقلام

أمّــــــــــــــــي

سيد جواد المهري

بعد قرابة ثلاثين عامًا من وفاتها، تذكّرتها: وهي دائمًا في ذاكرتي ولا يمكن أن يمضي عليّ يوم إلا وأدعو لها دعاء مفصلًا، ولكنني اليوم رأيت بعض وسائل الراحة في المطبخ فتذكرتها، وتذكرت كيف كانت تقوم بأعمال البيت من طبخ وخَبْز وكنس وتطهير مع وسائل بدائية جدًا دون أن تئنّ وتحنّ أو تقول كلمة تدل على انزعاج أو تذمّر أو تعب أو مشقة.

أمي اسمها سكينة، ولكنها في الصغر أسموها ”شيخة“ لأنها قبل زواجها كانت تعلم الأطفال القرآن دون مقابل، فقط تقربًا إلى الله. وبعد زواجها انحصر تعليمها على فلذات كبدها، أبنائها وبناتها .. علمتني القرآن كاملًا ولم أتخطّ ست سنوات. وكانت حريصة جدًا على تعليمي وتعليم غيري من الأبناء مع كثرة مشاغلها في البيت.
فبيتنا كان مأوى للغرباء من العلماء وطلاب العلوم الدينية والوعاظ الذين يقدمون إلى بلدنا للحصول على لقمة عيش، فالوالد المبجل- رحمه الله- كان فاتحا باب بيته على الضيوف من أية جنسية وقومية دون فرق، يأكلون ويشربون ويرتاحون شهرًا أو أكثر، حتى أن بعضهم كان يأتي مع أهله وعائلته ويسكنون معنا في بيتنا ليالي وأياما آمنين، والوالدة هي التي تقوم بطبخ الطعام ظهرًا و ليلًا، غذاء وعشاء دون أن تكلّ وتئن .. يا لها من صبورة لم ير الدهر مثلها.

أتذكر أيام شهر الله على مائدة الإفطار، غالبا عشرات المؤمنين وهكذا السحور، وكل الطعام كانت هي التي تطبخه دون مساعدة من أحد وتنوي التقرب إلى بارئها في ذلك. فلم تكن في أيامنا مطاعم مثل الآن، وأتصور أنه حتى لو كانت هناك مطاعم مجهزة فهي لا ترضى إلا أن تطبخ الطعام بيديها تكسّبًا للأجر.

أمي كانت تقوم لصلاة الليل قبل ساعتين تقريبًا من الفجر .. لا أدري متى كانت ترتاح ؟ وتتسابق هي وزوجها على التجافي عن جنبيهما في مضجع الراحة لإجابة دعوة الرب. وأما قراءتها للقرآن ففي شهر رمضان كانت تختم القرآن كل ثلاثة أيام (طبعا في السنوات الأخيرة من عمرها) و في أيام السنة كل عشرة أيام. وأما في أيام شبابها فبالتأكيد لم يكن لها الوقت الكافي لتلاوة القرآن مثل السنوات الأخيرة من العمر، ولكن شفتيها كانتا دائما تتحركان بالقرآن، حتى في آخر ساعة من عمرها رآها شقيقي سيد مرتضى -حفظه الله- تتحرك شفتاها وهي ملقاة على فراش الموت في المستشفى. يقول إنني اقتربت منها لأرى ماذا تطلب لألبي طلبها فرأيتها في عالم آخر .. انها استغلت فرصة آخر اللحظات لتقرأ القرآن، وماتت وهي تقرأ كتاب الله وبكل اطمئنان وهدوء وسكينة.

لا أطيل الحديث، ولو أن في قلبي كلمات كثيرة أحب أن ألقيها على أسماعكم، إلا أنني أتحرى الاختصار حى لا أكون مملًا. وآخر ما أقول عنها إنها كانت تقول: ما أرضعت أبنائي إلا وأنا على وضوء .. وكانت دائمًا على وضوء، فسلام من الرحمن على روحها الزكية الطاهرة ما دامت السموات والأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى