أقلام

كرت برايل

عبدالباري الدخيل

أيُّ نعم الله أعظم؟

هكذا يسأل أحمد أصحابه.. ثم يعود ليجبهم: نِعَمٌ كُلّها عظيمة لأنها منحة من إله عظيم.

يأخذ نفسًا عميقًا ويكمل: لكن تتميز نعمة النظر عن غيرها، فلا وجع يشبه وجع فقده، ولا سجن كزنزانة ظلامه.

تختلف أسباب هذه الإعاقة، فأحمد ولد مبصرًا، ثم أصيب في صغره بمرض في عينيه، وبسبب العلاجات الشعبية أخذ نورهما يتضاءل إلى أن أظلمت الدنيا.. أغلقت عيناه أجفانها، ودخل في كهف الظلمات مبكرًا، لكنّ لطف الله أكبر، فلم يتركه يعاني كثيرًا، بل عوّضه بنعم أخرى، ففتحتْ حواسه أبوابها بالتدريج حتى أصبح يسير كبقية المبصرين.

كان يرفض أن يساعده أي أحد، ويردد دائمًا: “إن كنتُ فقدتُ بصري فأنا أمتلك بصيرة”، ثم يرفع العصاة البيضاء، ويكمل: “هذه نعمة عوضني الله بها”.

ابتسامته لا تفارق وجهه، ضحكته مجلجلة، صوته حنون يأسرك إذا أنشد أبيات الشعر، أو شذا بموال، خفيف الظل، يتنقل برشاقة بين مكاتب إدارة مستشفى الولادة التعليمي في كربلاء، يحمل كوب الشاي بلا خوف، ولا يصطدم بأي جسم يعترض طريقه، يتبادل الدعابات مع زملائه، كأن يقول لأحدهم: لون القميص جميل لكن ربطة العنق غير مناسبة، أو يبدأ بسؤال يوجهه لآخر: “شكو بوجهك متغير؟”

سبق خروجه من العمل ليستقلّ سيارة أجرة أن نظر إلى المرآة وتأنق، تحسس شعره، وربطة عنقه، ومسح حذاءه، وخرج يترنم بأبيات من الشعر الشعبي وكأنه يقصد موعدًا غراميًا.

انحنى أمام السيارة التي توقفت أمامه وقال: شارع الحولي عند مدينة ألعاب السندباد.. إذا ممكن؟!

– بخدمتكم.. تفضل

أحس أنه كان على موعد مع سيدة أنيقة ذكية، فابتسامتها اخترقت حواسه وهي ترحب به.

فتح الباب وجلس في المقعد الخلفي، رتب هندامه، ووضع رجلًا على أخرى، ثم مال برأسه ناحيتها ليستمع لها، كانت تحدثه بكل أدب ولم تحسسه أنها تتحدث إلى كفيف.

سألها: كيف كان يومك؟

قالت: يوم شاق كغيره.. “زحمة وأخلاق ماكو”.

– “صدق ما أشوف زحمة بس أحس ما كو أخلاق”.. ضحك وأكمل: “صدق مَ نشوف بس نشم”

ثم أخذ نفسًا عميقًا، وتركه يتسرب بهدوء.

وبلا مقدمات سألها عن عطرها، فأجابته بسؤال: هل تتعطر بعطور نسائية؟

قال: لا، ولكنّ العطر يدل على أن الزهرة العبقة من أجود الزهور.

ضحكت وهي تحرك مقود السيارة لتقف أمام مدينة الألعاب.

توقفت السيارة، مد يده، ناولها الأجرة، وناولته كرت تعريف مطبوع بلغة (برايل).. ابتسم وهو يتحسس اسمها ورقم تلفونها.

فتح باب السيارة وترجل ثم مد عصاه ورتب ثيابه.. وقبل أن يغلق الباب التفت إليها بكل جسمه وقال: اسم جميل (باسمة).. لحظة صمت وكأنه يتذكر شيئًا، ثم أكمل: الباسمة هي الأنثى الضاحكة بلا صوت وأنا سمعت رنة ابتسامتك كما شممت عطر أخلاقك.

أقفل الباب وغادر يمشي بثقة وقد وضع عصاه تحت أبطه، فهذا طريقه اليومي، حفظه عن ظهر قلب، وما وعى لنفسه إلا وقد دخل في بضاعة صاحب محل، وضعها في الشارع، سقط وسطها، فخرج صاحب المحل وخاطبه: (يا أعمى)، فجرحته الكلمة، وأذله الصراخ، وجعله يتكوّر على نفسه، إلى أن مدت له يد تربّت على كتفه، وصوت ناعم لطيف يقول له: قم .. لا ذنب لك فيما حصل.

قال: باسمة؟

أجابته: نعم

أمسك بيدها ووقف يرتب هندامه، فهمست تواسيه:

(ارمِ نَــظَّـارَتَــيـكَ مَـا أَنـتَ أَعْــمْـــى

إِنَّـمَـا نَـحْــنُ جُــوقــــةُ الــعـمْـيَـــانِ)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى