أقلام

الجهل بسيَر العلماء

 

علي عيسى الوباري

يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم “ما قبض الله عالماً، إلا كان ثغرة في الإسلام لا تسد”.
كلما بذل الإنسان جهدا في سبيل المجتمع، وقدّم رسالة مباشرة إلى الناس بالفكر والجهد، أصبح شخصية عامة، وتنمو علاقة الناس به كلما زاد عطاؤه، وأخلص في عمله. يصدق هذا القول على العالم الربّاني الفقيه الذي يعتبر رسالته الحياتية جزءا من حياة المجتمع فكرا وعملا، ومن عطائه وجهده تتعزز علاقته بمن يستفيد من فقهه وحركته وعلمه الديني في منفعة الناس، فتصبح رسالته وحياته قاسما مشتركا مع المؤمنين والمجتمع، يحق لهم أن يستفيدوا من مشواره العلمي ورسالته الدينية والاجتماعية.

لو نحسب عدد العلماء والشيوخ المنتمين للحوزة، والذين حققوا انجازا تعليميا متقدما في المنطقة، نجدهم قليلين، خصوصا أصحاب العطاء في خطاب المنبر الحسيني وَالخطاب الديني التوعوي من خلال المساجد وبالمناسبات الدينية والثقافية.

في مدة محدودة فقد المجتمع بالمنطقة عددا من هؤلاء، أصحاب الأيادي البيضاء، الفاعلون، المضحون بأوقاتهم وجهدهم على حساب صحتهم وعوائلهم، يكفي من عطائهم تحمل مسئولية التعلم والدراسة في دول بعيدة عن أوطانهم، عانوا من مشاق السفر والترحال بذلك الوقت، من مدينة علمية إلى أخرى، التي يُشهد لها بالتعليم الحوزوي التخصصي المتميز، بواسطة مراجع ومجتهدين وعلماء أساتذة في العلوم الدينية. هذه الثلة العلمية تركوا الراحة وركبوا سفينة المعاناة، في بحر العلم المتلاطم، بمخاطر متطلبات الإنجاز والتوفيق باجتياز الدروس الحوزوية تحت ظروف مادية صعبة وحرجة للأغلب، أو الرجوع بالإخفاق.

هذه الإرادة التي تميز بها الأوائل، الذين اعتبروا رسالة التعلم والتثقف الديني واجبا ذاتيا، ليعودوا إلى بلدانهم الأصلية ويعلموا مجتمعاتهم بما هم مبتلون به في الأحكام الشرعية، وما يغيب عنهم في شئون العقيدة والدين.
من هؤلاء الرساليون الذين تنقلوا بين المدن والقرى بعد رجوعهم شيخنا الفاضل الراحل أبو محمد هلال المؤمن رحمه الله، وأسكنه فسيح جنانه. ورغم تاريخه الحوزوي القديم والطويل، إلا أنه لم يأخذ حقه من معرفة المجتمع بسيرته، ليطّلع كل من أراد الدراسة الحوزوية على أصراره بالكسب المعرفي.

بعد موته تعرف المجتمع على جزء يسير من تاريخه العلمي، هذه القامة العلمية المتميزة حملت تاريخا طويلا في الاجتهاد بحثا عن العلم، متنقلا من موقع علمي إلى آخر، في سبيل التحصيل العلمي التخصصي، ليكون عالما ربانيا يخدم المؤمنين، ويعلّم ويوعّي المجتمع عقائديا وفقهيا، ويزودهم بسير الأئمة المعصومين عليهم السلام.

لقد ظهرت سماته الأخلاقية ومستوى تعليمه الحوزوي من أساتذته البارزين الذين درس على أيديهم، ونهل من معارفهم. وإن اقترن اسم شيخنا الفاضل هلال رحمه الله برموز علمائية، من مراجع ومجتهدين هو بحد ذاته تاريخ وتميز لشخصه، وعلامة فارقة تستحق الذكر والتوثيق، لأنها تتضمن دروسا على حب التطوع، والاجتهاد في مشروع التعلم الديني، واكتسب من أساتذته المثابرة والاجتهاد في الدروس الحوزوية.

الظروف التي سافر فيها الشيخ الفاضل المتواضع تعطي دلالات على أن هناك أشخاص رساليون مدفوعون من داخل ذواتهم لتحمل الرسالة والمسئولية الشخصية من أجل الآخر، ويصدق عليهم الإيثار الحقيقي والتضحية ونكران الذات، والتحرر من ملذات الدنيا، والتوجه لما هو أسمى.

هؤلاء الرساليون بأي مجتمع قلة ونادرون، وتركوا خلفهم ما يغنيهم عن التعب والكدح، ولديهم القدرة والإمكانيات على التميز في التعليم الدنيوي الذي من خلاله يكونون في وضع مادي أفضل، يتبوأون مناصب اجتماعية ووجهائية، لكنها المسئولية الذاتية تجاه العقيدة، ونحو المجتمع، بالمبادرة بالسفر لكسب العلم، والعودة للقيام بأدوار ومهام تعليمية وتثقيفية دينية في المجتمع، طلبا لرضا الله، والحصول على الثواب والأجر الأخروي.

وبعد هذا التعب والتضحية والعطاء في حياتهم، من المسئول عن جهل المجتمع بسير هؤلاء الناذرون أنفسهم لخدمة الرسالة الدينية، فلا يعرفهم المجتمع إلا بعد موتهم.
رحم الله الشيخ هلال المؤمن وأسكنه فسيح جنانه.
علي عيسى الوباري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى