أقلام

قراءة على ديوان (ظمأ أزرق) للشاعرة حوراء الهميلي

بنان خضبه الشعر.. وذات على أرجوحة القلق

كاظم الخليفة

كما تعود عليه الشعر، ووعاه منذ لُثغَته الأولى بالمفردات، يأبى إلاّ أن يتربع على عرش اللغة. يومئ بصولجانه إلى قطعان الكلمات الشاردة والأفكار السابحة حتى يرتق بهما شقوقًا في جسد المعنى. يناور الوجود بشخبطات حروف أبجديته على جدارية الكون الفسيحة، يعلن احتجاجه أحياناً، ويمارس كثيراً ولعه بتوليد معان موازية؛ يبرزها رغبة منه في التعالي والسمو. فعندما أُفرغ من ادعاءات صلته بقوى ميتافيزيقية، حافظ على مكانته الرفيعة في الدفع بالوعي إلى ذرى رفيعة من خلال المخيلة، واستحكام قبضته على ناصيتي الفكر واللغة.
عَبَرَ محطات عديدة في الوظيفة والمواضيع الشعرية، لكنه لم يبرح يجدد في أدواته وصوره، وتناسل الكلمات واشتقاقاتها، وبالمبهر من الجمل الشعرية. ومن جهة أخرى له أن يفخر بعدم تمييزه بين القول الشعري الأنثوي أو الذكوري منذ فجره الأول. بل تعداه إلى اعتراف العربي القديم بتفوق المرأة العاطفي عند البوح وبث مكنونات الذات؛ وذلك لامتلاكها الجرأة على الإفصاح عن مشاعرها أكثر من الرجل، كقول أحدهم:
وما وجد أعرابية قذفت بها
صروف النوى من حيث لم تك ظنّتِ
بأكثر مني لوعة غير أنّني
أجمجم أحشائي على ما أجنّتِ

إلاّ أن ذلك العربي القديم بموروثه، قد حصر مقدرة المرأة الشاعرة في نطاق المقطوعات الشعرية، أي بعدم تجاوزها للعشرة من الأبيات، ولم يثبت لديه تأليفها للقصيدة إلا فيما ندر كالخنساء مثلاً. لذلك تثأر شاعرتنا حوراء الهميلي من تلك الصورة النمطية لأسلافها من الشواعر العربيات، وتنشر ديوانها الأول في ثلاث قصائد يتفرع من كل واحدة منها جداول شعرية عديدة ترفد المعنى بتنويعات وتلوينات على جسد نصوص القصيدة.

ففصل مجموعتها الأول، أو قصيدتها الأولى “تأويل على وجه المرايا”؛ يتخذ من القلق الوجودي فكرته المركزية، ومن خلال حوارات الذات الشقية بوعيها؛ مع ذات مثالية أخرى مفترضة حين تنبثق من خلال لحظة الانفعال الشعورية، يتم توليد المعنى المنشود للحقيقة. فلحظة الانفعال الشعوري هي «الوسط الخاص الذي تتجمع فيه الانطباعات والتجارب بطرائق غريبة»، كما عبر عنه الشاعر ت. س. إليوت. أما الصورة في المرايا فهي انعكاس الذات المعرفية الجديدة بفعل الاشتباك مع الوجود، ومحاولة تأويل قضاياه الغامضة واستبطانها للمعنى، كما في قولها:
أنّى تواريتُ انكشفتُ كأنّني
شخصُ ثنائيٌّ ولي وجهانِ
في الليلِ أخلعُ ما النهارُ أعارني
لأرى شحوبَ الوعيِ في الإنسانِ

فنفي الذات القلقة حتى تظهر الذات المثالية العارفة، ممارسة روحية لها ارتباطاتها بالمفهوم الصوفي “المحو والاثبات”، وتحدث عند تغييب العقل حتى يفسح مجالاً للروح في ترحلها إلى آفاق عوالم الوجود:
شيءٌ هلاميٌ يموجُ بداخلي
عقلي يدورُ ولستُ مَنْ أثنيهِ
وعيي بلا وعيٍ يُطلُ برأسهِ
مِنْ ثقبِ ذاكرتي وما تُخفيهِ
وعيي المُطلُ أكادُ ألمحُ وجهَهَ
لكن ضميري صاحَ أنْ واريهِ

يمكننا هنا إحلال مفردة “عقلي” محل “ضميري” ليستقيم لنا المعنى عند اشتغالنا التأويلي على النص، ولنمضي في رحلتنا لاختبار فرضية إطار “العرفان” الذي يحايث القصيدة، فلا نمكث إلاّ قليلاً حتَى يبزغ لنا هذا البيتُ:
ما للحقيقةِ غيرُ لونٍ واحدٍ
فعلامَ فاضتْ جَرّةُ الألوانِ

إذاً هي إشراقة عرفانية صوفية بامتياز، والحقيقة هي صراطات مستقيمة متعددة كلوح زجاجي تهشم، فكل يمسك منه بقطعة، كما جاء في أدبياتهم. ونسبة العرفان في نصوص القصيدة تفصح عنها الشاعرة ولا تخفيها: «مفتونةٌ بالغيبِ / يرقصُ في دمي متصوفاً / في رحلةِ العرفانِ».
حسبنا هذه القراءة التأويلية العجلى للقصيدة الأولى، حتى نمضي حثيثاً في فعل القراءة على نصوص القصيدة الثانية أو الفصل الثاني والمعنون له بـ “تأويل على وجه المرايا”.

ففي عالم مليء بضجيج الكلمات وتزاحم الصور وتقاذف الأفكار، وبالذات في عصرنا الحالي، بتنافس وسائط التقنية الاجتماعية على الفرد واشغاله، تنشأ الحاجة إلى الشعر أكثر مما قبله. وإلى إعادة تشكيل قوالب الكلمات التي تسطحت وأدت إلى اضمحلال المعنى، وأفاضت بسيل من المفردات والجمل المتنافرة في صورها الجمالية نتيجة إلى اشتقاقها الأعجمي، وطبيعة وظيفتها التواصلية. هنا يأتي الشعر العاطفي ليمعن في رشاقة المفردة وابهارنا بالصور الشعرية كما في القسم الثاني من المجموعة التي تحتفي بالحب كقيمة إنسانية اصيلة وتتشح برداءه.
فإذا كانت الأنا الجندرية قد غابت إلى حد كبير في المواضيع الشعرية التي تأتلف الوجود من خلال الانفعال العميق والدائم مع قضاياه، وأيضاً في حالة تماهى الأنا الفردية وتوحدها في الوعي الكوني، إلا أنها تبرز وبقوة في مواضيع العواطف الإنسانية في هذه القصيدة، وتلون سياق المعنى بالهوية الأنثوية، خلافاً لمقولة سيمون دي بوفوار: «إن النساء يحلمن من خلال أحلام الرجال»:
أنا في قوةِ الأنثى رياحٌ
تعربدُ في الوجودِ بلا انحسارِ
أنا في دمعةِ الأنثى ضياعٌ
رمادٌ ثارَ في حقلِ انفجارِ

وتمعن الشاعرة في ابراز أنوثتها وتصر على أنّ للأنثى طريقتها المختلفة في التعبير عن المشاعر مغايرةً للرجل كطبيعةٍ وجبلةٍ: «ولا تنسَ.. / برغمِ الوعيِ واللاوعيِ/أحملُ في دمايَ غريزةَ الأنثى»، فالشاعرة لا تغادر منطقة الأنوثة في البوح عن عاطفة الحب على طول القصيدة بالرغم من تعدد الصور والاستعارات، فيصبح الشوق في مغالبته طفل يستلزم الصبر والمداراة:
الشوقُ طفلي الذي هجَأتهُ لغتي
ما زلتُ إحصاءَ خيباتي أُدرسُهُ
ويصبح الحب نفسه كالطفل في نموه حتى يبلغ أشده:
قرأتُ الحبَ في عينيكَ طفلاً
أهدهدُ فيهِ إحساسَ الحيارى

أما عندما تجتمع مفردتي الأنوثة والطفولة في نص، فهو نذير بأن المرأة قد اشهرت جميع أسلحتها، وأن الحواجز أصبحت من الارتفاع بحيث يصعب تخطيها وتحتاج إلى مغالبة، وهذا ما نجده في نصها “تمردٌ على حدودِ الذاكرة”: «اجهضتُ ذاكرة الطفولةِ من دمي/ ونفضتُ عن وجهي رمادَ أنوثتي/ فلربما حاولتُ هندسةَ الجراحِ/ ركضتُ في مضمارِ أمسي عدتُ للصفرِ/ اكتشفتُ بأن جرحي كان متخذاً مسار الدائرة! / وهزئتُ من جرحٍ بشكل الدائرة!».
في الجزء الثالث من المجموعة، أو قصيدتها الثالثة “نبوءةُ يد”، تعود حوراء مجدداً إلى مساءلة الوجود والاشتباك مع قضاياه من خلال محددين أثنين: الموت والقدر.

أما القدر والانعطافات الحادة في مسيرة الإنسان بتأثير قوى لا يعيها ولا يمكن نسبتها لأسباب مادية، هي من تربك العقل عند تطبيق قياساته المنطقية عليها. لذلك ابتكر الإنسان القديم تفسيرات ميثولوجيه أراحته عندما ربط مصيره بتأثير الكواكب وحركتها، وكذلك مسارات النجوم بخطوط كفيه.

حوراء في نصها “فوق صحائفِ الأبد” تستعرض تلك العلاقة بين الطبيعة والإنسان كمؤثر ومتأثر كما في المفهوم الأسطوري القديم: «خطوطُ يدي/ خريطة عمريَ المرسوم فوقَ صحائف الأبدِ/ يدي مسودة منها قرأت نبوءتي الأولى على مخطوطةِ الذكرى/ يدي والكون والملكوت».

ثم تستدير الشاعرة على المعنى وتنقضه عند غلبة الجانب الإيماني لديها، وتقرر أن الفعل الإنساني مع رعاية الخالق هي من تشكل المصائر: «ألونُ في ارتعاشِ السطرِ أحلامي…/ أطيرُها على جنحِ السحابِ رسائلاً للغيبِ نحو العالمِ العلوي»

إذاً. بالإمكان تأويل القدر ووضع تصور فردي له عندما ننقله إلى منطقة مفاهيمية أخرى؛ كمبدأ حرية الكائن البشري ودرجة وعيه بوجوده في العالم، لكن يبقى الموت حتمية لا شبهة فيها. فليس هناك معنى آخر للموت سوى الموت. وصوت البكاء هو واحد في نشيجه بالرغم من اختلاف لغات البشر. وكذلك هي أشعار الرثاء حيث تكاد أن يتوحد اسلوبها التعبيري، وذلك عندما تتضاءل الجمل الشعرية والصور المجازية في تأثيرها على المتلقي؛ لأن كمية المشاعر والأحاسيس التي يوحي بها الشاعر هي الغالبة في النص. فالشعر الرثائي «ليس تحريراً للعاطفة، إنما هو وسيلة للفرار منها»، كما يقول الشاعر والناقد هربرت ريد، يئن بثقلها المتلقي، ومن جهة أخرى لا يتأتئ للشاعر البوح بجميع جوانب المأساة، حيث الكلام حد للمعنى في نظر المتصوف محمد عبد الجبار النفري. حوراء تتواطأ مع مقولته: «بعض المشاعر كيف تحكى/ سوف يقتلها الكلام!؟».

لهذا سنكتفي بقراءة نصها “تحرسُ النخلةُ قلبي” لفرادة قصيدة الرثاء في موضوعها، حين خبرت الطفلة حوراء الفقد مبكراً وهي جنين قيد التخلق. فقد غادرها مبكراً توأمها وسقط من رحم أمهما ككيس هلامي لا هوية له: «كنتُ شيئاً نصفه لا شيء/ نُدعى توأما/ جملةٌ تركض في ساحة عقلي/ الشيءُ واللاشيءُ يُدعى توأما!».
فعندما تطلق حوراء صفة اللاشيء على الجنين الذي لم يتخلق بعد، فهي تناكف شعور الفقد باستدامة حضور توأمها في الأشياء الأقرب صورة إليه وتجعله النخلة:
«ربما/ توأمي النخلةُ/ مذ كنا مقاديراً بأحضانِ السماء/ هربت للأرضِ / قدت ثوبها الأخضر من ثوب المرايا/ زركشت خصر الصباحات بأعذب الرطب».

فعندما تخيلت حوراء هوية اللاشيئ وحددته بالنخلة، ينبت حينها سؤال هويتها هي وماذا تود أن تكون عليه لو كان متاحاً لها الاختيار:
«بيد أني /اخترت شكلي مثل حواء حملت الكون في ضلعي/ قوساً من أديم الحب…/ أنثى هبطت للأرض خطت رجلها /في الطين/ جذراً شد سيقان/ الأماني وانتصب».

باختيارها الافتراضي هذا، تتقبل حوراء حقيقة وجودها في الحياة، وتتباهى بدور الأنثى وطبيعتها كناشرة للحب والسلام.
في الختام، لنا القول إن نصوص الشاعرة حوراء الهميلي تبرز ملمحاً لسمات الشعر السعودي المعاصر من حيث وضوح صورة الأنا الانثوية الخالصة، مقابل هاجس الذكورية والتباسها في شعر المرأة – كما يدعي البعض – وأيضاً الالتزام بوحدة الموضوع في النص الشعري، وأن الذات القلقة والمتفاعلة مع الوجود لها حضورها الكبير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى