أقلام

الحجة الإلهية تامة: الإمام الجواد (ع) نموذجاً

* باقر الرستم.

ليس غريباً أن يظهر طفلاً أو صبياً نابغاً في ملفٍ ما، في موضوع ما، ويشتهر بين الناس.

وقد مرت البشرية بظواهر ملفتة، قد يصعب أحياناً تفسيرها.. ولكن مع الوقت يتكيف الناس معها، ويعتبرونها شيئاً مقبولاً، وهذا الذس أمامهم يتم تسجيله شاهداً عليها.

ولكن ليس مما تقره دراسة الظواهر الفريدة أو ما يبرز في النوابغ والعباقرة أن يكون هذا النابغ والعبقري منسجماً من حيث العمق والشمولية.. كنسخة أخرى من سابق، ليكون اللاحق بذات النبوغ والعبقرية.

هكذا لو أردنا أن نقدم الصورة للمتابع، لنصل به إلى أن الأمر يتجاوز حالة نبوغ لفرد، أو حتى لعائلة، إلى خصوصية تمثل انتماء يتجاوز المفهوم التقليدي لتعريف العبقرية والنبوغ.

ولا تكون العبقرية ولا يكون النبوغ إذا تعددت أفراده، وإنما لتقرده عن سواه يوصف بذلك.

منطق النبوغ والعبقرية لا يخص عنواناً محدداً، ولا حالة محددة، وإنما حتى في العائلة الواحدة.. كل واحد من النابغين فيها ينبغ في شيء مختلف عن الآخر.

وعندما نتحدث عن سلسلة تجاوزت المفاهيم التقليدية للنبوغ والعبقرية، وأن ابن الخمسين عاماً بذات علم ابن الخمس أعوام، وذاك العلم يتجاوز ما يتحصل عليه الناس عادة، وفوق طاقتهم في كثير منه، سواء بالتحصيل، أو بالتفكر واتقاد الذهن وما إلى ذلك، ويوصي السابق باللاحق، دون أن ينتظر ظهور علائم النبوغ تلك، فلا بد لنا- إذن- أن نبحث عن مصدر غير تقليدي لذلك العلم.

وبالتالي فإن حديثنا هنا سيختلف عن ذلك ذلك العلم.. وتجاوزه إلى عدم الوثوع في الخطأ، ولا شيء لدينا يفضي إلى أن هذا الشخص يمثل الإنسان الكامل في كل حضوره، وليس في جزئية ما من حياته.

قال الله تعالى: ((فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65)).

فإذن العلم هنا خاص من الله تعالى، فسُمّي بالعلم اللدنّي.

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام (( علمني رسول الله، ألف باب من العلم، يُفتح لي من كل باب ألف باب)).

إذن عملية الفتح هذه غير تقليدية، وهذا يعني من الصعب أن نطبق عليها القواعد التقليدية لمفاهيم التلقي والتعلم، وهنا نعود إلى ما قلناه أننا لا نتحدث عن عمر، وإنما عن شخص.. حيث الإمام الرضا عليه السلام يحمل ذات العمل الذي يحمله ابنه ابن الثمان سنوات.

الإمام الجواد.. النموذج الحي:

دائماً ما يكون الحديث عن العناوين والمفاهيم سهل، وقد تتمكن من اقتناص شوارد هنا أو هناك كمصاديق لها، ولكنها أن تكون واقعية، فدون ذلك مسافات طويلة، وقد لا تجد.

عندما نتحدث عن المثال الإلهي فإن الله تعالى خلق لنا المصال، ولو كان ذلك المثال ملَكاً، لقدمه لنا بهيئة إنسان يعيش كما نعيش، ويلبس كما نلبس.

قال تعالى (( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)).

فإذن.. ما نتحدث عنه هو رسالة، يفترض مقتضاها أن يتجاوز مفهوم النبوغ والعفوية السلوكية التي تفترض الخطأ والصواب، إلى النموذج الذي يبقى في دائرته السلوكية في إطار الممكن (( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))، ولكن استعظام الناس لبعض الأعمال فإنهم بحاجة أن يكون المثال واقعياً، ومُدرَكاً، ليجسد لهم معنى (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)).

نعم.. لن يكونوا كالإمام في علمه، وفي إدراكه، وفي نقائه، ولكنهم عندما يعودوا إلى المثال الممكن، سيجدونه أمامهم، وعندها (( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)).

فيما سبق من حضور الأئمة عليهم السلام.. فهناك نماذج تبدأ من أمير المؤمنين علي عليه السلام، وتنتهي إلى ما قبل الإمام الجواد بأبيه الإمام الرضا (ع)، ومروراً بِمُبلوِري مدرسة أهل البيت الفقهية والعقائدية رسمياً، الإمامين الباقر والصادق، وعلى ذات الطريق الإمامبن اللاحقين، الكاظم والرضا، فصار من الصعب أن يرث كل ذلك الكيان العلمي الضخم من هو دون ذلك.

ونحن في إمامة الإمام الجواد، والتي اعتاد الناس أن يتعرفوا على الإمام ببعض الخطوات، لتثبتوا إن كان هو الإمام أم لا.. نظير تعرفه إليهم، وأحياناً بما لديهم، وما حاجتهم لديه.. فالمسالة هنا مرتبطة بأمر أخروي، ولا يمكن أن يدخل فيها موضوع القربى، والمصانعة..

ونظراً لأن الإمام الجواد تسلم الإمامة وهو في الثامنة من عمره، فمن المؤكد أن هذا الأمر سيثير لغطاً كثيراً، إلا أن المأمون في ظل معالجة قضايا متشابكة في إدارة حكمه هو من تصدى لها.

فكان ذلك المؤتمر الذي أظهر علم الإمام اللدنّي، وتتالت المواقف، لتضع الجميع هنا على ذات المسار الذي كان عليه آبائه العظام.

الفارق من قبل أن مسألة التعرف على الإمام كانت خصوصية الشيعة، ومسؤوليتهم، إلا أن المسألة عندما وصلت إلى الإمام الجواد عليه السلام، ولتعقيداتها فقد كان السلطان بقوته، وجبروته وإعلامه هو من تكفل بذلك!!.

نعم.. كان لذلك المؤتمر تداعياته، وهو من سهل المسألة أيضاً عندما وصلت لنجله الإمام علي الهادي، والذي تسلم الإمامة في ذات العمر أو أصغر من ذلك، وهكذا الإمام المهدي.

تفرد وإذعان:

في سياق ذلك فإن حفظ المتعارف في هذه المدرسة من علومٍ، وما يتم تداوله، وإن كان في بعضه عميقاً، ولكنه قد لا يُلفت الانتباه كثيراً، وتحديداً أهل المقامات العالية من العلم في الناس، إذا ما كان من أهل بيت عرف أهله بالحفظ والفهم، وهذا ما كان معروفاً ومألوفاً من غير المعصومين من آل محمد(ص).

نعم.. قد يكون حافظاً، وقد يكون فهِماً، ولكنه بناءً على مألوف ذلك البيت، كما هو قتال القاسم بن الحسن لألوف البغاة، وهو دون سن البلوغ، ولكنه لن يكون أفضل من إمام عصره في الفن، بل هو عالة عليه.

ما برز من علم الإمام الجواد كان بناءً على الحاجة التي فرضتها ظروف سائليهِ ومستعلميه، وبالرغم من أن ذلك العمر الذي عُرف به، إلا أن جوابه (ع)، ومعالجاته متفردة، ولم تكن مسبوقة أو معروفة لدى الناس، ولعلها لم تكن مورد بلوى من يعنيهم جواب الإمام (ع)، وهذا ما دفع الجميع للإذعان له.

نُبَذاً من علم الإمام الجواد:

وعلى الرغم مما ظهر من علم الإمام، ووصية أبيه عليه، إلا أن ما اعتاد عليه كبار علماء الطائفة هو امتحان هذا الإمام بأعقد الامتحانات، لا يجيبهم بها إلا إن كان إماماً، ولذلك عندما اجتمعوا ليمتحنوا الإمام كان قد تظاهر بمقامه عمه ابن الإمام الكاظم (ع)، وكان مسناً، وما ظنوا، إلا أن الإمام الجواد كان عند ظنهم بالإمام..

في محضر المأمون:

عندما أراد المأمون تزويج* ابنته من الإمام الجواد (ع) اعترض العباسيون، وقالوا: أتزوج ابنتك صبياً لم يتفقه في دين الله، واذا كنت مشغوفاُ به فامهلهه ليتأدب…، فقال لهم: ويحكم إنه لأفقه منكم، وأعلم بالله ورسوله وسنته، فإن شئتم فامتحنوه، فرضوا بامتحانه، واجتمع رأيهم على قاضي القضاة يحيى بن اكثم أن يحضر لمسألته، وفي مجلس المأمون قال ابن اكثم للإمام: يا أبا جعفر أصلحك الله، ما تقول في مُحرم قتل صيداً؟.

فقال أبو جعفر (ع): قتله في حل أو حرم؟، عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟، قتله عمداُ أو خطأً؟، حراً كان المحرم أم عبداُ؟، كان صغيراُ أو كبيراً؟، مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟، من ذوات الطير كان الصيد؟ … محرماُ كان بالعمرة اذ قتله أو بالحج كان محرماُ؟

فتحيّر ابن اكثم، وانقطع… وبان في وجهه، وتلجلج، وتحيّر الناس عجباً من جواب الإمام الجواد (ع). فقال المأمون لاهل بيته: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟.

ولمّا تمّ الزواج قال المأمون للإمام: إن رأيت أن تذكر الجواب فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه.

فآجابه الإمام (ع) بما لم يسمعه من أحدٍ من قبل، ومما جاء قاله(ع) : « إن المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ، وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، واذا قتل فرخاً في الحلِّ فعليه حمل قد فطم من اللبن… ».

في مجلس المعتصم :

اختلف علماء بغداد في المقدار الذي يقطع من يد السارق، فقال بعضهم تقطع من حدّ الكف، ودليلهم قوله تعالى: ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)، ومقدار المسح في التيمّم هو الكف من الكرسوع إلى أطراف الأصابع.

وقال آخرون: تقطع من المرفق، واستدلوا بقوله تعالى: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ )، والإمام الجواد (ع) لا يتكلّم.

فقال له المعتصم: وما تقول يا أبا جعفر، فقال (ع): « لقد قال القوم ما سمعت».

فقال المعتصم: لا والله حتّى أسمع ما تقول أنت.

فقال(ع): « إن يد السارق تقطع من حدود الأصابع وتترك الكف ».

فقال المعتصم: وما دليلك على ذلك؟.

فقال الجواد (ع) : « الدليل:

أولاً: قوله تعالى: ( وَأَنّ الْمَسَاجِدَ للّهِ‏ِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً )، والمساجد هنا هي الجبهة والكفان والركبتان وطرفا الإبهامين، وما كان لله لا يقطع.

وثانياً: قول رسول الله (ص): السجود على سبعة أعضاء، الوجه واليدين والركبتين وإبهامي الرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها لله تعالى».

فأمر المعتصم بقطع يد السارق من مفصل الأصابع .

** أقوال بعض العلماء من غير الشيعة فيه:

عندما يصل مقامه وهو بهذا السن فإنه يتأكد قولنا في إمامته، ولما يمثله من مقام عالٍ، ليس عند الشيعة فقط، وإنما عند كافة المسلمين، والإشكالية في عزوف الناس هو تمسكهم بما لديهم، كما قال تعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ)).

والأمر كما وصفه تبارك وتعالى في قوله: ((لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)).

وقد كان من لمز بعض رجال قريش في أسامة بن زيد، وهو دون أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهذا يعني أنهم عندما لا يريدون شيئاً فسيلمزونه، ليبرروا لأنفسهم ترك الأخذ بقه، كما قال تعالى ((

* محمد بن طلحة الشافعي: (وإن كان صغير السنّ، فهو كبير القدر، رفيع الذكر).

* سبط ا بن الجوزي: (وكان على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد، و الجود).

* ابن الصبّاغ المالكي: (وإن كان صغير السنّ فهو كبير القدر، رفيع الذّكر، القائم بالإمامة بعد علي بن موسى الرضا ولده، أبو جعفر محمد الجواد للنصّ عليه و الإرشاد له بها من أبيه كما أخبر بذلك جماعةٌ من الثّقات العدول ).

* الشيخ محمود الشيخاني: (وكان محمد الجواد جليل القدر ، عظيم المنزلة… ) .

* ابن حجر الهيتمي: (أجلّهم ـ يعني أولاد الرضا ـ محمد الجواد لكنّه لم تطل حياته).

من ذلك، فنحن لا نقرأ حالة نبوغ، ولا حالة خفية يصعب على الآخرين التعرف عليها.. أبداً.. ولو كان الأمر كذلك لذهبت حجيتها.. بل نحن نقرأ ظاهرة جلية لصناعة الله تعالى لحجته، وكيف يقدم الحجة، والنص للناس، وكيف هي ظروفه المعقدة، وقدرته على تجاوزها

الإمام أبي جعفر عليه السلام نقل الناس من قراءة المفهوم في القرآن (( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)) إلى المصداق في شخصه المبارك((  لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيماً)).

______________________
* نقلت الروايات بتصرف لمقتضى الاختصار.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى