أقلام

الابتسار النقدي

السيد أمير العلي

توصيف أطلقه على بعض الكتّاب الممارسين لمحاولات إظهار الدين أو المذهب في صورة مشوّهة ومنفّرة؛ انطلاقاً من تركيزهم على أحكام، أو معارف، يرونها مخالفة للجوّ المعاصر السائد، والمتشكّل نتيجة هيمنة الثقافة الغربية الّتي لا تعترف بما وراء المادّة، وتنقل المركزية في رؤيتها، من الله تعالى، إلى الإنسان منفصلاً عنه سبحانه.
والابتسار الّذي أشير إليه يتجلّى في أكثر من جهة. منها اقتطاع الأحكام والمعارف من المنظومة المتكاملة الّتي تنتمي إليها، فهي منطلقة من أصول في نظرية المعرفة، والمبتنيات العقائدية، ومتجاورة مع أحكام فقهية، وتعاليم أخلاقية، وتوصيات اجتماعية عديدة، وخاضعة لشروط معتبرة، في إقرارها وتطبيقها. ومن جهة أخرى فإنّ مساحة الاجتهاد فيها ليست ضيّقة، ولا يعني عثورك على آيات أو روايات تؤيّدها وتبرّرها أنّك ظفرت بالكنز المغيّب، أو اكتشفت الفضيحة المدوّية؛ فإنّ للتعامل مع التراث الروائي ضوابط متعدّدة، ومناهج اجتهادية مختلفة، وليس كلّ رواية موجودة في التراث صادرة عن المعصومين، وليس كلّ صادر منحصر الدلالة، وليست الدلالة الّتي لا تستسيغها عصيّة على الفهم ضمن أجوائها، وإن كنت -ولا أقصد هنا كاتباً معيّناً بل نموذجاً ينطبق على كثيربن- تحاول أن تعبّر عن ذلك بالتلفيق والترقيع، في ممارسة من ممارساتك المعروفة، ومظهر من مظاهر خروجك من أفق العلمية، إلى منزلاقات الأدوات الإعلامية.
ومن جهة أخرى يتمثّل الابتسار النقدي في غمضك النظر عن كلّ الوقائع السلبية الّتي أهدتها الحضارة الغربية للعالم، وملايين الأرواح التي أزهقتها برامج وآلات الحروب الحديثة والمعاصرة، تحت شعارات نشر قيم حضارتهم المؤلّهة، وتحرير المجتمعات المتخلّفة عن ثقافتهم المتعالية. وليست هذه الوقائع خارجة على القوانين المعمول بها هناك، لكي نرجعها إلى نزوات فردية خارجة عن المعايير المعترف بها، بل هي صادرة عن إقرار المراكز القانونية في دول الاستعمار، ويعترف بعض الباحثين أيضاً، برجوعها إلى نظرات مستعلية، وعنصرية، تجاه المجتمعات الأخرى.
إنّه لمن الخطأ المنهجي أن ترفض حكماً مبتنياً على أسس عديدة، دون أن تذهب إلى تلك الأسس وترفضها، وبعد ذلك يكون الخلاف بينك وبين المتديّن خلافاً جذرياً. وبالتالي سوف لن تكون الأوصاف الّتي تطلقها على الدين، من البشرية والإرهابية والقسوة والظلم، ذات قيمة عند المتديّن؛ لأنّه يختلف معك في ما انبنت عليه، كما لا تعبأ أنت بالأوصاف الّتي يطلقها المتديّن على ما تتبنّاه ،وتسمّيه منهجاً عقلانياً، مثل الضلال وتأليه الإنسان، وشيأنته، ونسيانه لذاته المرتبطة تكويناً بالغيب.
أشير ختاماً إلى أنّ اعترافنا بالاجتهاد كأداة لفهم الدين وأحكامه وتعاليمه، يعني التعامل مع نتائج الاجتهاد لا كمسلّمات مطابقة لواقع الدين بالضرورة، وهذا ما يجعلنا نرفض الانتقال من نتيجة اجتهادية -لو سلّمنا خطأها افتراضاً- إلى تحميلها على الدين وإدانته بها. كما لا يعني رفضنا المنهج الابتساري إغفالنا لأهمّية النظر في إثاراته، كسبيل لتنمية الواقع الاجتهادي في فهم الدين، شريطة عدم الخضوع للأجواء النفسية الّتي يكوّنها هذا المنهج، وما ينتمي إليه من ثقافة مادّية مهيمنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى