أقلام

مدرسة أهل البيت عليهم السلام واستقلالها عن الدولة

علي محمد عساكر

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى
سأحاول أن أتحدث في هذا الموضوع عن ميزة من أهم ميزات مدرسة أهل البيت العلمية، وهي الاستقلال الكامل عن الدولة في كل شؤونها، وأحب أن أمهد لذلك بحديث مقتضب عن مصدر من مصادر علومهم، وعن ريادتهم العلمية صلوات الله وسلامه عليهم.

وقد أشرت بعض الإشارة إلى هذا الدور الكبير الذي مارسه الأئمة في تأسيس المدارس العلمية ونشر العلم بين الناس في الصفحة 82 ـ 83 من كتابي: (في رحاب الإمام الجواد) فكان مما قلته هناك ممهدا به للحديث عن دور الإمام الجواد العلمي وترجمة بعض طلبته وتلاميذه: (لقد نذر الأئمة الأطهار عليهم السلام نفوسهم الكريمة، وأوقفوا حياتهم الطيبة، وسخّروا إمكاناتهم الجبارة، وقدراتهم العملاقة ومواهبهم الفذة…من أجل خدمة الأمة الإسلامية، ومحاولة بنائها على جميع الأصعدة والمستويات، لترقى إلى أوج الحضارة الحقيقية، وتصل إلى أعلى مراتب التقدم والرقي والازدهار.

ففي المجال العلمي -مثلاً- نرى الأئمة سلام الله عليهم قاموا بدور كبير عظيم، قد أثرى الفكر الإسلامي بالعلوم والمعارف والنظريات الأصيلة التي أهّلت علماء الإسلام للاضطلاع بدور السيادة والريادة العلمية في الأرض، فقد كان للأئمة الأطهار عليهم السلام دورهم البارز في تثقيف المجتمع، وتعليم الناس، وتنوير أفكارهم، وتوعية عقولهم، وتوسيع مداركهم، والأخذ بأيديهم إلى هدي الرسالة، وأنوار النبوة، التي حمل مشعلها الوضاء رجل العلم والمعرفة الأول في العالم: النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم والمعرفة، ويتلو عليهم آيات ربهم، ويزكيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة.

فقد عقدوا عليهم السلام الحلقات، وأقاموا الندوات، وتزعموا الحركات العلمية المختلفة، وخاضوا كل العلوم، وغاصوا في شتى الفنون والمعارف، ولم يبخلوا على الناس بعلومهم الكثيرة، ولم يضنّوا عليهم بمعارفهم المتنوعة، بل فتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم، واستقبلوهم بكل سعادة وارتياح، وأقبلوا عليهم بخلقهم الكريم، وأدبهم العظيم، وتواضعهم الرفيع، وبشاشتهم المعهودة، وأخذوا صلوات الله عليهم يغدقون عليهم من عطائهم الخصب، وغذائهم العلمي الغني، ففقهوهم في الدين، وبصروهم في أصول وفروع الشريعة الغراء، وشرحوا لهم الأحكام، وبينوا لهم مسائل الحلال والحرام.

ولم يقتصر نشاطهم العلمي صلوات الله وسلامه عليهم على الفقه والمسائل الشرعية فقط، بل امتّد ليشمل جلّ العلوم، كالحديث، والتفسير، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والطب، والرياضيات، والفلسفة، والاجتماع، والأخلاق، والإدارة، والاقتصاد…وغير ذلك من العلوم والمعارف التي منّ الله وتفضّل بها عليهم، وهو تبارك وتعالى ذو المنّ والفضل العظيم.

وقد تربى على أياديهم الكريمة، وتعلّم في مدارسهم العملاقة، وتخرّج من جامعاتهم الشامخة، التي تحمل نور الوحي والرسالة، الكثير من أكابر العلماء، وأعاظم الفقهاء، وفطاحل الحكماء، وجهابذة المفكرين، الذين أصبحوا نجوماً لامعين في سماء العقيدة والمبدأ بما قدموه للإسلام من أجزل الخدمات بتصانيفهم القيمة، ومؤلفاتهم المفيدة، ومجالسهم العلمية الحاشدة، مما كان له أبلغ الأثر في نشر الفكر الإسلامي الأصيل)

هذا بعض ما قلته في كتابي: (في رحاب الإمام الجواد) عن الريادة العلمية لأهل البيت سلام الله عليهم، وأحب أن أشير الآن إلى أن المؤسس الأول لهذه المدرسة المباركة، والغارس لبذرتها الطيبة، هو رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي كان يغدق علومه على صنوه ووصيه الإمام علي بن أبي طالب حتى علمه ألف باب من العلم يفتح له من كل باب ألف باب، كما كان صلى الله عليه وآله المعلم الأكبر لابنته سيدة نساء العالمين، وسبطيه وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين، ثم كان كل إمام لاحق يستقي العلم من الإمام السابق، لتنتهي السلسلة في النهاية إلى رسول الله الذي {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} فكل أهل البيت إنما هم خريجو مدرسة الوحي والرسالة، إذ أنهم ورثة جدهم، وإليه تنتهي علومهم كما هو الحال في سائر مآثرهم صلوات الله وسلامه عليهم.

وإلى هذه الحقيقة يشير باقر علوم الأولين والآخرين بقوله سلام الله عليه: (لو كنا نحدث الناس برأينا وهوانا لهلكنا، ولكنا نحدثهم بأحاديث نكنزها عن رسول الله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم) وقال صادق القول والعمل: (عجبا للناس يقولون أخذوا علمهم كله عن رسول الله فعملوا به واهتدوا، ويرون أنا أهل البيت لم نأخذ علمه، ولم نهتد به، ونحن أهله وذريته، في منازلنا أنزل الوحي، ومن عندنا خرج العلم إلى الناس، أفتراهم علموا وجهلنا، واهتدوا وضللنا..؟!) ويقول عليه السلام: (إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، وإن محمدا ورث سليمان، وإنا ورثنا محمدا، وإنا عندنا صحف إبراهيم، وألواح موسى) وانتهاء علم المعصومين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مما لا سبيل للتشكيك فيه أبدا وعلى الإطلاق، وهو مما أجمعت عليه الطائفة.

يقول الشيخ محمد جواد مغنية: (إن علوم الأئمة وتعاليمهم يحدها -في عقيدة الشيعة- كتاب الله وسنة نبيه، وإن كل إمام من الأول إلى الثاني عشر قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكل ما في هذين الأصلين من الألف إلى الياء، بحيث لا يشذ عن علمهم معنى آية من آي الذكر الحكيم تنزيلا وتأويلا، ولا شيء من سنة رسول الله قولا وعملا وتقريرا، وكفى بمن أحاط بعلوم الكتاب والسنة فضلا وعلما، وأن هذه المنزلة لا تتسنى ولن تتسنى لأحد غيرهم، ومن هنا كانوا قدوة الناس جميعا بعد جدهم الرسول تماما كالقرآن والسنة.

وقد أخذ أهل البيت علوم الكتاب والسنة وفهموها ووعوها عن رسول الله، تماما كما أخذها رسول الله عن جبرائيل، وكما وعاها جبرائيل عن الله، ولا فرق أبدا في شيء إلا بالواسطة فقط لا غير، ونظم الشاعر الإمامي هذا المعنى فقال:
إن شئت أن تبغي لنفسك مذهبا ينجيك يوم الحشر من لهب النار
فدع عنك قول الشافعي ومالــك وأحمد والمروي عن كعب أحبار
ووال أنـاسـا نـقـلهـم وحديثهــم روى جدنا عن جبريل عن الباري

أخذ علي عن النبي، وأخذ الحسنان عن أبيهما، وأخذ علي بن الحسين عن أبيه، وهكذا كل إمام يأخذ العلم عن إمام، ولم ترو أصحاب السير والتواريخ أن أحدا من الأئمة الإثني عشر أخذ عن صحابي أو تابعي أو غيره ، فقد أخذ الناس العلم عنهم، ولم يأخذوه عن أحد)

انتهى كلامه رفع الله مقامه وأقول: ولأنهم ورثة جدهم الرسول، وخزان علمه، ومستودع سره…قرنهم صلى الله عليه وآله بالكتاب، وجعلهم قدوة لأولي الألباب، وأمر الناس بالرجوع إليهم، والتتلمذ على أيديهم، وأخذ العلم عنهم، كما حذر عليه وآله السلام من التقدم عليهم في قول أو عمل، فقال في حديث الثقلين المروي في مصادر جميع المسلمين المتفق على تواتره وصحته عند الخاص والعام: (إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإني سائلكم عنهما يوم القيامة، ولا تتقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا في حقهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)

يقول ابن حجر الهيتمي عند تفسير الآية الرابعة عشر من الآيات التي أوردها في أهل البيت عليهم السلام: {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} وذلك في الصفحتين 180 ـ 181 من الفصل الأول من الباب الحادي عشر المخصص لذكر فضائلهم عليهم السلام، في كتابه (الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة) الذي كتبه ردا على الشيعة: (ثم اعلم أن لحديث التمسك بذلك -أي بالكتاب والعترة- طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، ومرّ له طرقا مبسوطة في حادي عشر الشبه -أي أنه ذكر لحديث الثقلين طرقا كثيرة مبسوطة عند ما سماه الشبهة الحادية عشر من شبه الشيعة والرد عليها- وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قال ذلك بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف كما مر، ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر ذلك عليهم في تلك المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة…)

إلى أن قال: (سمى رسول الله صلى الله عليه وآله القرآن وعترته -وهي بالمثناة الفوقية الأهل والنسل والرهط الأدنون- ثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كلّ منهما معدن للعلوم اللدنية، والأسرار العلية، والأحكام الشرعية، ولذا حث صلى الله عليه وآله على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت…)
قال ابن حجر: (وقيل سميا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما، ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيده الخبر السابق: “ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم” وتميزوا بذلك عن بقية العلماء، لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وشرفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة…)
إلى أن قال: (وفي أحاديث التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أمانا لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: “في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحرف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله عز وجل فانظروا من توفدون”…)

إلى آخر كلامه الذي لا غنى لكل طالب للحق، باحث عن الحقيقة، من الوقوف عليه، والتأمل فيه، خصوصا وأنه صادر ليس فقط عن غير شيعي، بل من رجل يرد على الشيعة، ويتهمهم بكل طامة، إلى حد أنه اعتبرهم أهل بدع وزندقة.
أما الخلاصة التي أريد الوصول إليها من هذا العرض فهي: أن المؤسس الأول لمدرسة أهل بيت العصمة والطهارة هو رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ أنه عليه وآله السلام غرّهم العلم غرّا، ثم قرنهم بالكتاب، وجعلهم قدوة لأولي الألباب، وأمر الناس بالرجوع إليهم، وأخذ العلم عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وحين اختاره الرفيق الأعلى إلى جواره قام الأئمة من بعده بالأمر على أكمل وجه، ليشيدوا الأركان، ويقيموا البنيان في مواصلة ما بدأه وأسسه لهم جدهم الرسول من نشر العلم وبثه إلى الناس كل حسب ظروفه وطبيعة عصره، فعلي أمير المؤمنين قد استغنى بعلمه عن الكل، والكل كان محتاجا إليه، وكان العلم يتفجر من جوانبه، وتنطلق الحكمة عن لسانه، حتى ملأ الدنيا علما وفكرا، ولو لم يكن له إلا نهج البلاغة لكفاه ذلك عزا و فخرا، وكذلك الحال بالنسبة لأولاده الغر الميامين بما جادوا به على الأمة من علوم في خطبهم وملاحمهم وحكمهم ومواعظهم ورسائلهم ومحاجاتهم وأجوبتهم ودروسهم…إلى أن جاءت النوبة إلى لإمام الباقر الذي حوّل مسجد جده الرسول في المدينة المنورة إلى جامعة علم شامخة، فكان عليه السلام كما يقول القرشي في الصفحة التاسعة من مقدمة كتابه: (حياة الإمام الباقر): (الرائد والمعلم والقائد لهذه الأمة في مسيرتها الثقافية، وقد سار بها خطوات واسعة في ميادين البحوث العلمية، مما يعتبر عاملا جوهريا في ازدهار الحياة الإسلامية، وتكوين حضارتها المشرقة في الأجيال التي جاءت بعده)
ولقد كانت (مدرسته الباقرية) زاخرة برواد العلم والمعرفة من كبار العلماء والمفكرين، الذين كانوا يتصاغرون بين يديه، ويقرّون له بالتفوق العلمي عليهم في كل الفنون والعلوم، وينهلون العلم من ينابيعه المتفجرة نهلا، إلى أن آن أوان رحيله المفجع من الدنيا، فسلّم القيادة لولده أبي عبد الله الصادق، الذي واصل عليه السلام مسيرة أبيه باقر علوم أهل البيت، فكانت (المدرسة الصادقية) التي خرّجت أكثر من أربعة آلاف عالم في شتى الفنون والعلوم، كالطب، والكيمياء، والفلك، والرياضيات، والتاريخ، والفقه، والحديث، والتفسير…حتى قال علي الوشاء: أدركت في مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد الصادق.

وكان من أهم ما تمتاز به هذه المدرسة العظيمة هو الحفاظ على طابعها وهويتها واستقلالها الروحي والسياسي والمالي عن الدولة، فلم يكن الإمام يسمح للدولة بالتدخل المباشر أو غير المباشر في شؤون تلك المدرسة، ولم يعطها أية فرصة لبسط سلطتها ونفوذها عليها، وهذا ما جعل الدولة عاجزة عن استغلال تلك المدرسة وتسخيرها لأغراضها وخدمة مصالحها رغم محاولاتها المتكررة في ذلك، والتي لو ذهبنا نتحدث عنها تفصيلا لملأنا صفحات كثيرة، فطالما حاول المنصور جذب الإمام الصادق إلى بلاطه، ودمجه بحاشيته، وبسط سلطته على مدرسته، لتكون بيده السلطة التشريعية والتنفيذية على حد سواء، لكن الإمام الصادق كان يتمنّع عليه، ويقف في وجهه بكل حزم وصلابة، ليقطع عليه الطريق، ولا يمكنه من الوصول إلى غرضه، حتى كتب المنصور ذات مرة إلى الإمام الصادق عليه السلام: لمَ لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟!
فأجابه الإمام: ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا تعدها نقمة فنعزيك، فلم نغشاك؟!
فكتب إليه المنصور: تغشانا لتنصحنا. فرد الإمام عليه السلام: من أراد الدنيا فلا ينصحك، ومن أراد الآخرة فلا يتبعك.

وليست هذه المحاولة الوحيدة من المنصور في جلب الإمام إلى بلاطه، بل كانت له محاولات أخرى، وقف منها الإمام الصادق موقفا حاسما، حتى أفشل كل مخططات المنصور، وقطع عليه الطريق في وضع يده على مدرسته، وبسط نفوذه عليها.
وكذلك الحال بالنسبة لسائر الأئمة في الحفاظ على استقلال هذه المدرسة، وعدم تمكين السلطة الحاكمة من وضع يدها عليها بأي حال من الأحوال، فقد تزعم الإمام الكاظم الحركة العلمية بعد أبيه الصادق، وتصدى لمحاربة الأفكار الإلحادية التي انتشرت في عصره، كما قام بدور كبير جدا في نشر فكر وتراث أئمة أهل البيت في الأوساط العلمية، حتى استقطب كبار العلماء، وجهابذة المفكرين، الذين أقبلوا من كل حدب وصوب ينهلون من علمه، ويتتلمذون على يديه، فكان الرواة والعلماء والفقهاء لا يفارقون مجلسه، ويحرصون على تدوين كل ما يصدر عنه، حتى روى ابن طاووس: (أن أصحاب الإمام الكاظم وخواصه كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس وأمبال، فإذا نطق الإمام بكلمة، أو أفتى في نازلة، بادروا إلى تسجيل ذلك).

وطالما حاولت الدولة العباسية ضم الإمام الكاظم إليها كما حاولت مع أبيه من قبل، لكنها لم تفلح في ذلك، إذ وقف الإمام في وجهها بكل حزم وصلابة، وأصر على استقلال مدرسته، وعدم اندماجها بالسلطة مهما كان الثمن باهظا ومكلفا، مما دفع السلطة العباسية إلى أن تضيّق الخناق عليه وعلى أصحابه، وتمنعهم من تدريس العلم ونشره بين الناس، حتى وصل الأمر إلى حد أن يكتب الإمام عليه السلام إلى هشام -وهو أحد كبار أصحابه وتلامذته- بالكف عن الكلام، ونشر العلم، نظرا لخطورة الموقف وشدته.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى سجن الإمام الكاظم ليقضي في سجنه السنوات الطوال، إلى أن مات في سجنه مظلوما مسموما.

أما الإمام الرضا فقد انتشرت القواعد الشعبية الموالية لأهل البيت في عصره، وكثرت الثورات المناوئة للعباسيين، المطالبة بإرجاع الحكم إلى العلويين، فجهر الإمام الرضا بمخالفته للسلطة، واستقلاله عنها، وأخذ يشرف على أصحابه بنفسه، ويوجههم إلى ما ينبغي عليهم القيام به، حتى خاف عليه أصحابه من بطش العباسيين، وفتكهم به.

يقول صفوان بن يحيى: لما مضى أبو الحسن موسى وتكلم الرضا خفنا عليه من ذلك، وقلنا له: إنك أظهرت أمرا عظيما، وإنا نخاف عليك من هذا الطاغية.
فقال عليه السلام: فليجهد جهده، فلا سبيل له عليّ.

كما جاءه آخرون يحاولون إقناعه بالسكوت، وعدم الجهر بالمخالفة، ويطلبون منه الأخذ بالتقية التي هي دينه ودين آبائه وأجداده، لكنه عليه السلام -ونظرا لمعرفته بتغيير الأوضاع، واختلاف الظروف التي لم يدركها أصحابه، والخائفون عليه- لم يستجب لذلك، بل واصل سياسته العلنية في مقاطعة السلطة، وعدم التحالف معها، وقاد نشاطا سياسيا وعلميا علنيا كبيرا، وقام بجولة واسعة في العالم الإسلامي، تنقل خلالها من المدينة إلى البصرة، ومنها إلى الكوفة، يلتقي بأصحابه وقواعده الشعبية، كما يعقد الحلقات العلمية من إلقاء الدروس، أو الدخول في الحوارات والنقاشات العلمية مع أصحاب المذاهب أو الملل والنحل الأخرى، وكان يخرج من جميعها فائزا منتصرا، وكان هذا الحراك العلمي السياسي للإمام الرضا أحد أهم العوامل التي أجبرت المأمون على القيام بلعبة ولاية العهد، التي كان من أهم أهدافها وغاياتها شل حركة الإمام، وعزله عن أصحابه ومريديه.

ولكنه عليه السلام لم يقبل بهذه الولاية إلا مكرها، وتحت وطأة التهديد كما يعلم المطلعون، ومع ذلك لم يسمح لهذه الولاية بأن تجعله ينخرط في سلك الدولة، أو يكون من رجالها، بل حافظ على استقلال مدرسة أهل البيت إلى حد أن اشترط على المأمون العباسي أن لا يقبل بولاية العهد إلا بشروط، إذ قال عليه السلام للمأمون: (أنا أقبل ذلك على أن لا أولّي أحدا، ولا أعزل أحدا، ولا أنقض رسما ولا سنة، وأكون في الأمر من بعيد مشيرا).

وكان المأمون يتناسى هذه الشروط أحيانا، ويحاول أن يكسب من الإمام الرضا غطاء شرعيا لخلافته، فيطلب منه التدخل في بعض الأمور، إلا أن الإمام كان يتمنع عليه، ويذكره بما بينهما من شروط، فيقول: (تفي لك وأفي لك، إنما دخلت في ما دخلت على أن لا آمر، ولا أنهى، ولا أعزل، ولا أولّي، ولا أسير، حتى يقدمني الله عليه قبلك).

ولم يختلف الحال بالنسبة لسائر الأئمة المتأخرين عن الإمام الرضا عن هذا النهج والسير على هذه الطريقة، التي هي الموقف السلبي من الدولة، والحفاظ على استقلال مدرسة أهل البيت، وحمايتها من بسط اليد عليها، فمع أن المأمون ومن بعده من الخلفاء كانت سياستهم مع الإمام الرضا ومن بعده من الأئمة هي تقريبهم من البلاط، ومحاولة دمجهم بالسلطة إلى حد أن الإمام العسكري كان ملزما بزيارة البلاط يومين في الأسبوع هما الأثنين والخميس، إلا أننا لو قرأنا تاريخهم عليهم السلام لما رأينا لهم أي موقف من المواقف فيه تأييد للسلطة، أو دعوة إليها، أو دمج لمدرسة أهل البيت بها.

ولم تكن هذه السياسة في المقاطعة للدولة، والحفاظ على استقلال مدرسة أهل البيت، متوقفة عند حد عدم تعاون الأئمة بأنفسهم مع السلطة، بل وصلت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فقد كان الأئمة صلوات الله عليهم يؤكدون على شيعتهم وعلمائهم ورواة أحاديثهم بضرورة الحفاظ على هوية مدرستهم واستقلالها، ويحذرونهم من محاولة الانخراط في سلك الدولة، أو تمكينها من وضع يدها على تلك المدرسة بأي شكل من الأشكال، حتى ولو بالترافع إليهم، وفض الخصومات لديهم، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام: (إياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى أئمة أهل الجور) (أيما مؤمن قدّم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله، فقد شركه في الإثم) (أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرفعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}
وكذلك الإمام الكاظم نهى أصحابه من التعامل معهم، أو الترافع إليهم، وإن استثنى من ذلك علي بن يقطين الذي كان يتولى منصب الوزارة أيام هارون، وذلك من أجل أن يسهّل أمور أصحابه متى اضطرتهم الظروف إلى الاحتياج إلى السلطة، وقد أراد علي بن يقطين أن يترك عمله إلا أن الإمام الكاظم عليه السلام قال له: (لا تفعل، فإن لنا بك أنسا، ولإخوانك بك عزا، وعسى الله أن يجبر بك كسيرا، أو يكسر بك ثائرة المخالفين عن أوليائه.

يا علي كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم،اضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثا، اضمن لي أن لا تلقى أحدا من أوليائنا إلا قضيت حاجته وأكرمته، وأضمن لك أن لا يظلك سقف سجن أبدا، ولا ينالك حد السيف أبدا، ولا يدخل الفقر بيتك أبدا.
يا علي من سرّ مؤمنا فبالله بدأ، وبالنبي ثنّى، وبنا ثلّث)
وكانوا عليهم السلام يتكفلون بنفقة طلبة العلم، ويضمنون لهم رزقهم ومعيشتهم، كما كان يفعل ذلك الإمام الباقر في حياته، وأوصى به ولده الإمام الصادق بعد وفاته، وعلى هذا النهج كان سائر الأئمة يسيرون، وليس ذلك فقط من أجل أن يتفرّغ أولئك الطلبة لطلب العلم، ولا يلهيهم عنه كدهم على عيالهم، ولكن أيضا من أجل أن يرفعوا عنهم الفقر والحاجة إلى ما في أيدي الناس، لئلا يستغل فقرهم مستغل من سلطان ظالم، أو حاكم غاشم، ويحاول أن يشتريهم بماله وثروته، فيذلون له، وينساقون ورائه، ويسيرون في ركابه، فيأخذهم مطيّة لأغراضه السياسية، وأطماعه الشخصية.

كما كانوا عليهم السلام يحذرون من وعاظ السلاطين المتصفين بالظلم والجور، ويقفون منهم موقفا حازما، ويذمونهم ذما كبيرا، وينقدونهم نقدا لاذعا، إلى حدّ أن يقول الإمام الصادق عليه السلام: (الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم).

وحين انساق محمد بن شهاب الزهري في ركاب الأمويين -بعد أن نهل العلم على يد الإمام زين العابدين- وأصبح مطيّة لهم، ومبررا لأفعالهم، وقف منه الإمام السجاد موقفا حازما، وأرسل إليه رسالة قوية، وشديدة اللهجة، وكان مما قاله له في تلك الرسالة: (واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن آنست وحشة الظالم، وسهّلت له طريق الغي بدنّوك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دعيت…إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك، ودنوت ممن لم يردّ على أحد حقا، ولم تردّ باطلا حين أدناك…وأحببت من حاد الله …أو ليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم، وجسرا يعبرون عليه إلى بلاياهم، وسلّما إلى ضلالتهم، داعيا إلى غيهم، سالكا سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال)
وحرصا من الأئمة على حفظ هذا الاستقلال لمدرستهم عبر التاريخ والأجيال، فقد عيّنوا لهم نوابا، وأمروا شيعتهم بالرجوع إليهم، وأخذ تعاليمهم منهم، وهم العلماء الأعلام، والفقهاء العظام، لذا نجد الكثير من النصوص الإسلامية تؤكد على مرجعية العلماء، وتعطيهم النيابة العامة عن المعصومين في الأمة خلال عصر الغيبة، وتؤكد على عموم المؤمنين بالرجوع إليهم، وتحذر من مخالفتهم أو الرد عليهم.

يقول الإمام الصادق عليه السلام: (ينظر إن كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حدّ الشرك بالله)
فالقيادة في عصر الغيبة إنما هي للعلماء، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية الدفاع عن الإسلام، ودرء الأخطار عنه، وبيان أحكامه، وتوضيح حدوده، والحفاظ على استقلال مدرسته من الوقوع في يد أي ظالم يسخرها لظلمه، وتبرير إجرامه.

وبسبب هذه السياسة لأئمة أهل البيت في الحفاظ على استقلال مدرستهم، دخلت المدرسة في صراع كبير مع الدولة التي ضيقت الخناق عليها، وحاربتها بكل قوة، وبدون هوادة، إلى أن وصل الأمر إلى حد اغتيال الأئمة، والتنكيل بشيعتهم، ومحاولة إبادتهم عن جديد الأرض.

ولم تزل الحوزات أو مدارس أهل البيت محافظة على هذا الاستقلال الكامل إلى عصرنا الحاضر رغم ما مرّ بها من ظروف ومحن، وطالما دخلت حوزة النجف -التي هي أعرق الحوزات وأعظمها- في صراع مع الحكومات المتوالية على العراق، وصل إلى حدّ تهجير بعض العلماء، وقتل بعضهم الآخر، وسجن آخرين، والتضييق على المراجع والفقهاء والفضلاء وطلبة العلم، كل ذلك بسبب محاولة حرف هذه الحوزة عن مسارها، وإجبارها على تغيير سياستها، لتكون خاضعة للسلطة، سائرة على نهجها، موافقة لأهوائها، لكن الحوزة ظلت صامدة، بل مواجهة لكل تلك الحملات المسعورة، التي تريد النيل منها، أو تسخيرها لأغراضها الخاصة، وإخضاعها لسياستها البغيضة، وكم عانت حوزة النجف العريقة وعلماؤها الأبرار من كيد الكائدين، وظلم الظالمين، وكم فجرت وقادت من ثورات إصلاحية، وكم لها من مواقف بطولية في وجه الاستعمار، ومحاربة كل سلطة غاشمة ظالمة تستهدفها، أو تستهدف أمن العراق وسلامته…ولو أننا بسطنا الكلام في هذا الموضوع لخرجنا بصفحات كثيرة جدا دون أن نفي بالغرض.

وليس الأمر منحصرا في حوزة النجف دون غيرها، بل أن جميع الحوزات هي على هذا النهج من الاستقلال، وإلى الآن لم نقرأ في التاريخ ولم نسمع أن حوزة من الحوزات حادت عن هذا الخط الذي رسمه أئمة أهل البيت عليهم السلام، وحتى حوزة قم هي محافظة على استقلالها عن الدولة، غير خاضعة لسلطانها، فرغم أن إيران جمهورية إسلامية شيعية، إلا أنه لا سلطة لها على الحوزة ومناهجها وسياستها وكل ما يتعلق بشؤونها.

وهذا الاستقلال في كل شيء هو مما اختصت به مدرسة أهل البيت، وامتازت به على سائر المدارس الإسلامية، ولو رجعنا إلى التاريخ لرأينا أن العامل الأساس لبقاء مدرسة أهل البيت، وانتشار مذهبهم في العالم الإسلامي هو القوة الروحية، والمؤهلات الذاتية التي تملكها هذه المدرسة وذلك المذهب، عكس المذاهب الأخرى التي ما كان ليكتب لها البقاء والاستمرار لولا ارتباط الدولة بها، ودعمها لها، ووقوفها إلى جانبها، فالمذاهب التي ترضى عليها الدولة، وترى أنها تناسب سياستها، كانت تعمل على دعمها ونشر أفكارها إلى حدّ أن تلزم الأمة بالأخذ بها دون غيرها، ولهذا كانت المذاهب في صعود ونزول، وتارة تخبو، وأخرى تظهر وتنتشر، وذلك وفق موقف الدولة منها.

وكان نصيب المذاهب الأربعة من الرضا والقبول أكثر من نصيب غيرها، وهذا أهم العوامل في انتشارها في العالم الإسلامي، وبقائها حية إلى اليوم، أما المذاهب الأخرى التي لم تحظ بما حظيت به هذه المذاهب من الدعم، فكلها قد اندثرت، ولم يبق منها إلا اسمها وبعض آثارها في التاريخ، ولهذا فهي تسمى المذاهب البائدة.

أعلم أنني أطلت كثيرا، لكن المطلعين يعلمون أن الموضوع واسع ومتشعب، وأن كل ما ذكرته أنا الآن -رغم طوله، وما فيه من توسع- إلا أنه ما هو إلا قطرة من بحر، وإلا التفصيل فيحتاج إلى تأليف كتاب قائم برأسه، لكنني آمل أن يكون في هذا العرض المختصر ما يكفي في إثبات الاستقلال الكامل لمدرسة أهل البيت، وأن هذا مما اختصت وامتازت به دون غيرها من المدارس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى