أقلام

دمعة في غسق الليل

السيد فاضل آل درويش

لليل قصة مع بني البشر في التعامل معه وفق تصوراتهم وآمالهم وأهدافهم وخيباتهم وإخفاقهم أيضًا، وهذه قصة لها امتدادها بطول التاريخ البشري، فقد ارتبطت النفوس بما تحمله من مشاعر ونظرات بسواده الحالك، حيث هناك الركون إلى هدأة النفس وطلب التخلص من الضغوط والاستفزازات النفسية والوجدانية، لعلها تجد فيه ما يطيب جراحها وآلامها ويخرجها من الواقع المأزوم والمعقد، وتختلف طريقة ودرجة تعاطي الناس مع سواد الليل بحسب اتجاهاتهم، ولذا يظفر بمطلوبه بعضهم وتشرق شمس يوم جديد على آخرين دون أن يستجد لهم شيء، ولسنا بصدد الحديث عما حولهم والعوامل المحيطة بالإنسان بقدر التعمق في النفس البشرية ومكنوناتها، فهناك من يحيا الأحلام الوردية فينفصل عن واقعه في ذلك الليل المظلم ليتصل بآماله المتعثرة، فيحاول أن تطأ قدماها أرض الخيال فيحركها للوصول إلى النهايات وفق أمانيه البعيدة، وما إن يفيق من عالمه الحالم حتى يجد أنه ما يزال في المربع الأول وكل تلك المسافات والمحطات التي وصلت إليها رغباته مجرد وهم وسراب سرعان ما تلاشى ورحل، ومكمن الخلل لا يتعلق بنيل الأهداف وتحققها بقدر طريقة التعاطي الخاطيء مع الواقع وحلحلته بعيدًا عن المنطقية والتعامل العقلائي، فالسياحة العاطفية والتنفيس عن الهموم بهذه الطريقة لا يمثل سوى هبة نسيم ما إن تغادرنا حتى يتبين لنا الواقع بكل ما يحمله من تفاصيل لا نطيقها، ولذا فإن تعاطينا مع ذلك الوقت الجميل الذي تغادر فيه المكونات المخيفة أو المسببة للضيق ستكون له الآثار السلبية والخسائر الحالة علينا، وذلك أن هذه الحياة الوردية ستنظم تفكيرنا بعيدًا عن الرشد والوعي وطريقة التفكير الصائبة، ولعلنا من خلال هذا الاستعراض البسيط تعرفنا على عامل مهم متدار عنا يسبب لنا الضغوط النفسية، حيث لا نجد مخارج لمشاكلنا ويحل علينا النهار المشرق وتبقى الهموم ملازمة لنا، بينما نرى الراحة النفسية قد ظفر بها غيرنا مع معرفتنا التامة بالظروف الصعبة والتحديات الكبيرة التي يواجهها، فليكن لنا موعد مع الليل الجميل لنتخلص فيه من همومنا ولكن بطريقة أخرى مثمرة.
وهناك من يلوذ بسواد الليل المظلم ويتخذ منه ملاذًا و محطة يستعيد فيها قواه وطاقته ليعاود في يوم جديد جولة مع الصعوبات والمشاكل التي يمر بها وقد تخفف من تلك التوترات والضغوط، نعم إنها استراحة محارب يداوي في ذلك الليل جراحاته ليس من خلال تحرير المشاعر المستفزة وإطلاق العنان لها لتقود أعنة أموره، بل هي محطة يلتقط فيها أنفاسه بعد أن استنزفت طاقته النفسية وتناقصت قدرته وجهوده، فتلك الأوقات التي يخلو فيها بنفسه و يتدارس أموره وما مضى من خطواته و تصرفاته لن يجد لها موضعًا كالليل المظلم، فالعقل المنظم يستعيد عافيته ويتخلص من التشتيت ويستطيع أن ينظم خطواته ليوم جديد، كما أن تلك المشكلة أو الإخفاق الذي واجهه يبحث له مخارج ممكنة، ويستنهض إرادته وهمته الممثلة لجانبه القوي وحضوره الفاعل في ميادين الإنجاز وتحقيق الذات النشطة.
وهناك من يستقطع هذا الوقت الجميل والمميز ليشبع جانبه الروحي الذي يستشعر من خلاله الأنس والأمان الحقيقي، فهو بحاجة إلى من يتحدث معه ويبث له همومه ويطرح شكواه ليتخلص من العبء الثقيل على نفسه، ومناجاة الباري هي الراحة النفسية والأنس الحقيقي وعنده تهون كل العراقيل والصعوبات في الحياة، فخالقه مدبر الكون وما فيه ومقاليد أموره كلها في تصريفها وتدبيرها بيده سبحانه، وحالة الخشوع التي تعتريه منبثقة من شعوره بالضعف أمام القدرة المطلقة، وما أرق تلك الدموع المنسكبة المعبرة عن ندمه على تقصيره وخطاياه، فكم من الأوقات ضاعت سدى ولا تعود بها عقارب الساعة إلى الوراء لم يستفد منها، دموع لا تعبر عن انكسار وتعاجز وضعف الحول بل هي عنوان القوة في ساحة المواجهة مع أهواء النفس وخداع الشيطان الرجيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى