أقلام

المجتمع والمشتركات الاجتماعية

إبراهيم الشخص*

ينبغي أن يتساءل كل فرد عن أهدافه المشتركة مع مجتمعه، فما الذي يجمعني مع من أعيش معهم على مستوى المباديء والقيم والأهداف الأساسية؟

عبّرت الآيات القرآنية عن جانب الترابط الاجتماعي (بالولاية بين المؤمنين)، وقد خطبت السيدة الزهراء سلام الله عليها في مسجد النبي صلى الله عليه وآلهفكان مما قالت: “أنتم عباد الله، نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم ..”.

بهذه الكلمات كانت السيدة الزهراء تذكّر المسلمين بدورهم، وبما أوجب الله عليهم من حفظ الدين ونصرته. فأكّدت أنهم عباد الله؛ ولا بد أن يمتثلوا لأمر الله ونهيه. ثم إنهم حملة دينه ووحيه، فواجبهم الحفاظ عليه. (وأمناء الله على أنفسكم) يعني أمناء في تطبيق دين الله على أنفسكم، وكذلك يواجهون وظيفة إبلاغه إلى الأمم (وبلغاؤه إلى الأمم).

فالسيدة الزهراء عليها السلام تشير إلى تلك الأمانة الملقاة على عاتق المسلمين تجاه الدين في أنفسهم أي في مجتمعهم، فعليهم أن يطبقوا دين الله فيما بينهم، والذي يتمثل في الولاية بين المؤمنين {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

وفي المقابل {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].

فهناك ولاية ترجع إلى الله؛ وهي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، والتي تأخذهم إلى طريق ولاية الله. وهناك ولاية لا ترجع إلى الله {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء}، فهذه الولاية لا تقي الإنسان من حر ولا من برد، ولا تقيه من مطر ولا من شمس، بل لا تدفع عنه هبوب الرياح؛ كبيت العنكبوت الذي لا يحمي من شيء. كذلك الإنسان إذا انتمى إلى مجتمع لا ينتمي إلى الله عز وجل، ولا يحمل المبادئ الإلهية، وإن كان لذلك المجتمع ظاهر جميل يغتر به الناظر، لكنه سرعان ما يجد أن ذلك المجتمع لا يحميه من شيء، فهو بيت واهن لا يحمي من التسلط ولا من الهوى، ولا يُلجؤ إليه عند المصائب، بل ينطوي على كثير من المفاسد النفسية والاجتماعية. والمحتمي بذلك البيت الواهي سرعان ما تأخذه مصائب الدنيا، أو أهواء النفس، أو يستغلّه المستكبرون.

قوة المجتمع وضعفه انطلاقا من مبادئه:

لا يسمى أي تجمّع مجتمعا إلا إذا كان يجمع على أمر ما، ولا تتكون الأمة إلا إذا كانت تقصد هدفا مشتركا يجمع بين أفرادها. وقد تكون المجتمعات صغيرة، كما يقال (مجتمع الأطباء، مجتمع الأساتذة، مجتمع المتدينين، مجتمع المثقفين)، فهذا التجمّع يحكي عن مشتركات محدودة مثل مجال العمل أو الاهتمامات الثقافية أو الفكرية.

لكن الحالة الاجتماعية التي تشكل مجتمعا واسع النطاق يشمل أفرادا مختلفين في الاتجاهات متنوعين في اهتماماتهم تتطلّب مشتركات أوسع، تبدأ من المكان والزمان، وقد يشتركون في الدين، وفي الثقافة والأخلاق العامة. وكلما اتسعت دائرة المشتركات في مجتمع كلما كان ترابطه أقوى.

ويبدأ تشكلّ المجتمع عادة من ارتباطه المكاني؛ حيث يعيش جماعة من الناس في مكان واحد وتتكون بينهم مشتركات اقتصادية، ومصالح ترتبط بحياتهم المادية. ثم تمتد مشتركاتهم وتتدرج إلى أن تتوسع إلى ثقافة عامة. وتنشأ كذلك مشتركات مرتبطة بأهداف تتعدى الجانب الاقتصادي، لتشمل المبادئ والقيم الفكرية والثقافية. فالمشتركات الاجتماعية قد تتسع وقد تضيق، وتبعا لها يقوى ترابط المجتمع ويضعف. فحري بكل فرد من أفراد المجتمع أن يتسائل عن تلك المشتركات التي تجمعه بمجتمعه الذي يعيش فيه، وعن تلك الأهداف التي يعيش لأجلها؛ فهل مشتركاته واسعة أم ضيقة؟ وما مدى أهميتها في حياته؟ وهل ارتباطه بمجتمعه يقف عند حدود المصالح المادية؟ أم أنه أوسع من ذلك؟

اغتراب الهويّة: 

كلما ضاقت دائرة المشتركات الاجتماعية كلما كان ذلك المجتمع مجتمعا متلاشيا مندكا في مجتمع أكبر منه، فإن ارتباطك بمجتمعك في حدود المصالح المادية يعني أنك مرتبط بمجتمع آخر في الجوانب الأخرى، فإن أهدافك كفرد إذا لم تكن مرتبطة بمجتمعك الصغير فهي بلا شك مبرتبطة بمجتمع آخر. لأنك لا يمكن أن تعيش بلا ثقافة ولا فكر، أو من دون مبادئ وأهداف. والأمر نفسه ينسحب إلى الجانب المادي والاقتصادي، فإما أن ترتبط هذه الجوانب بمجتمعك الصغير وإلا فستنحاز إلى مجتمع أوسع وأبعد. وهكذا فإن ارتباط أغلب أفراد مجتمع ما بمجتمع أكبر منه يعني تلاشي المجتمع الصغير وفقدانه لهويّته، فيكون مجتمعا ضعيفا لا يقرر لنفسه مبادئه ولا ثقافته ولا أهدافه.

وهذا سيؤدي بالنتيجة إلى الخضوع لسيطرة الأقوى – المعنى الذي تطرق له الشهيد الصدر في دروس التفسير الموضوعي– فالأقوى في جوانب متعددة هو الذي يسيطر على الأضعف الذي تنحصر مشتركاته في جوانب محدودة، بالمصالح المادية الاقتصادية مثلا، لطبيعة الاجتماع والعيش في مكان واحد.

ونحن لسنا بصدد تحديد المشتركات الاجتماعية التي ركز عليها القرآن الكريم، وأهم المبادئ التي تمثل المجتمع الإسلامي، فهي كثيرة متنوعة، وتحتاج إلى فرز، وتنظيم هرمي، وتحديد الأساسات والمتفرعات.

في الفكر الإسلامي توجد مبادئ أساسية هي منطلق تشكّل المجتمع الإسلامي، وقد أكّد القرآن الكريم على عدد من تلك المبادئ، وأبرزها: القسط والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل تلك المبادئ والقيم الإسلامية مجتمعة في العبادة لله عز وجل والخضوع له.

إنما نريد أن نسلّط الضوء على جانب مهم يقدّم فيه الإسلام الحل لمشكلة التسلط بالقوة والغلبة. ونريد الوقوف على طريقة القرآن الكريم في علاج حالة التنازع بين القوي والضعيف في المجتمع الإسلامي؟

نعم؛ يجب أن يكون المجتمع الإسلامي قويا في قبال المجتمعات الأخرى؛ لكي لا تسيطر عليه، لكن علاقات المجتمع الإسلامي (مع غيره، وداخليا) لا تبتني على أساس سيطرة القوي على الضعيف.

يمكن الوقوف على ثلاثة مستويات من المعالجة في القرآن الكريم، حيث تبدأ بقاعدة عامة تكون أساسا للعلاقات الاجتماعية، وفي مستوى آخر تفصّل في بيان وتنظيم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي، والمستوى الثالث يناقش ذلك من الناحية التربوية . حيث نلاحظ كيف تعالج بعض الآيات مصدر رغبة الإنسان في أن يكون قويا وأن يستضعف الآخرين، فتعالج المنشأ الداخلي النفسي للنزاع بين القوي والضعيف.

فتقع تلك المعالجات على عدة مستويات:

– مستوى المبدأ العام.

– مستوى تنظيم العلاقات الاجتماعية.

– المستوى التربوي.

المستوى الأول/ المبدأ العام:

يقول سبحانه وتعالى {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ..} [الفتح: 29].

فالقاعدة العامة التي تحكم العلاقة الأساسية بين المؤمنين هي أن يكونوا رحماء بينهم. ثم تتطرق الآية إلى بعض الصفات التي تربي جانب الرحمة {.. تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُود ..}ِ، فعلاقتهم بالله وخضوعهم له تعالى هو الذي يجعلهم رحماء بينهم.

المستوى الثاني/ تنظيم العلاقات الاجتماعية:

أما على مستوى تنظيم العلاقات الاجتماعية فهناك آيات تشير إلى أهم ما ينبغي أن يجمع الناس، وأن يشترك فيه المؤمنون، كقوله تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ..} فهناك ما يجمعهم ليكون بعضهم ناصرا لبعض ومؤيدا له {.. يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ..}، هذه بعض المواصفات التي يجب أن تكون في المجتمع الإسلامي، ونتيجتها الرحمة الإلهية لذلك المجتمع {.. أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم}ّ

وإذا قرأت آيات مقابلة تقول إن {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ..}، تجد في نتائجها البعد عن الرحمة الإلهية.

فالمؤمنون إذن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إضافة إلى عبادتهم لله وخضوعهم له تعالى، في مقابل غيرهم الذين {.. يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].

وفي نموذج آخر يشير القرآن الكريم بوضوح إلى جانب تنظيمي في العلاقات الاجتماعية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ..} بدأت الآية بمزيد من المشتركات الاجتماعية {..آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ..} هؤلاء من جهة، ومن جهة أخرى {.. وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوا ..}، فهناك إذن مشتركات أوسع جمعت الذين هاجروا فبذلوا وضحوا، ومعهم الذين استقبلوهم ونصروهم وقاسموهم أموالهم {.. أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٌٍ  ..}، {.. وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ..} فهولاء مستوى المشتركات الاجتماعية بينكم وبينهم أقل، مع ذلك لم ينقطع الارتباط بينكم وبينهم {.. وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ..} [الأنفال: 72]، لاحظ أن الآية ركزت على المشترك العام بينكم وبينهم وهو الدين.

وهناك آيات تشير إلى ما ينبغي أن يعامل به المؤمن المجتمع المقابل للمجتمع المسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ  وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ..} [المائدة:52]، فهو وإن كان يعيش في المجتمع الإسلامي، لكن اعتماده ولجوءه وخضوعه لمجتمع آخر يقلل ارتباطه بهذا المجتمع، فينتمي إلى مجتمع آخر، {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} [النساء:139]، فلا تظن أنك تكون قويا إذا انتميت إلى مجتمع آخر. بل المجتمع الإيماني هو الذي يوفر لك العزة والمنعة التي تأتي من الارتباط بالله عز وجل مصدر كل عزة.

هكذا إذن يجب أن يسير المؤمن في علاقاته الاجتماعية، ليكون مرتبطا مع مجتمعه الإسلامي بدائرة واسعة من المشتركات، إلى أن يصل المجتمع ككل إلى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، فإن الولاية واللجوء والنصر والانتصار كله بالله وإلى الله عز وجل، ومن خلال رسوله صلى الله عليه وآله والأئمة الهداة من أهل بيته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ..} [النساء:59].

مع ملاحظة أن الولاية لما كانت بين المؤمنين كان {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض} فالمؤمن في مقابل المؤمن يتحمل كل واحد منهما مسؤلية تجاه الآخر. لكنها عندما تصل إلى الولاية لله فهي امتثال له تعالى، واتباع لأوليائه الذين أمر بطاعتهم، لذلك {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ..} ولذك {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ …}.

المستوى الثالث/ المستوى التربوي:

هناك فارقان أساسيان ينقل القرآن الكريم بهما المجتمع الإسلامي من حالة التنازع بالقوة إلى حالة التراحم. فيؤسس المجتمع الإلهي بما يتضمن الرحمة الإلهية، في مقابل المجتمعات غير الإلهية التي تبني علاقاتها وفق الغلبة، وتبعا لقانون القوة والضعف، ويبني فيها المتسلطون سلطانهم وفق الأطماع والأهواء. فتجد المجتمع القوي يستغل المجتمع الضعيف، والأفراد الأقوياء يتسلطون على الضعفاء {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ ..} [القصص:4]، بينما يبدأ المجتمع الإلهي من الخروج عن نطاق سيطرة الأهواء والأطماع والتكبر وحب والتسلط والاستغلال. تقول السيدة الزهراء عليها السلام: وإمامتنا أمانا من الفرقة. لأن منشأ تلك الإمامة منشأ إلهي، فلا أطماع ولا استغلال.

ويقول سبحانه وتعالى {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ..} [البقرة:157]، فمن  ينتمي إلى الطاغوت ويتولى المتسلطين، فهم يخرجونه من النور إلى الظلمات. ومن أمثلة ذلك وسائل الإعلام التي تسعى للتسلط على أفكار الناس فتأخذهم إلى ظلمات فوق ظلمات، وتبذل كل جهدها لتغري الناس وتخدغهم، ويستسلم لها الكثير من الناس وهم يعلمون أنها كلها ظلمات. بينما يدعو الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى أن يتفكر ويتعقل ويعي، وإلى أن يرى ما حوله ببصيرة تخرجه من الظلمات إلى النور.

وفي الجانب العملي التربوي (جعل الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها من الكبر) فمن يخضع لله لا يتكبر على عباد الله ولا يستغلهم (والزكاة تزكية للنفس) لأنها تزيل عن الإنسان حب الدنيا والخضوع لحب المال (والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق).

وهنا نقف على بعض الآيات التي تعالج جانب الطمع وحب المال عند الإنسان، وآيات أخرى تعالج جانب التكبر، وهما من أهم ما يؤسس لحب التسلط على الآخرين:

انطلاقا من الولاية بين المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23]، ثم يقول تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].

فالأموال والمساكن والتجارة، في مقابل الله والرسول والعطاء والبذل في سبيل الله (الجهاد في سبيل الله) {.. فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين}.

ومنذ البداية خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وآله {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:6-11]. فكل ما عندك إنما هو من عند الله عز وجل فكن رحيما بعباده.

وكذلك يقول تعالى {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ..} [الليل:5-8].

فهناك نقطة بداية بأن يخرج الإنسان من الطمع وحب الدنيا، ليبدأ التأسيس لمجتمع لا يقوم على أساس التسلط والاستغلال.

هذه بعض الآيات التي تعالج مسألة الطمع، وتؤسس للعطاء والبذل، وكثيرا ما قرنت الآيات القرآنية بين الزكاة والصلاة.

وهناك آيات آخرى مرتبطة بمعالجة مسألة التكبر والغرور. وأي تكبر يمكن أن يحل في قلب يعرف أن كل شيء لله عز وجل، يقول سبحانه وتعالى {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، ويقول أيضا {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء:37-38].

لاحظ كيف تصوّر هاتان الآيتان التكبر والغرور؛ وأنه من أسوأ ما يتصف به الإنسان.

فهناك مجتمع الرحماء الذي يُبنى على الرحمة والعطاء والولاية لله عز وجل والطاعة له ولأولياءه، يقابله مجتمعات التسلط والاستغلال، مجتمعات المتكبرين والمترفين، التي تبتني على الأطماع والأهواء واستغلال الأخرين.

والسؤال الذي نقف عنده هو: أين موقع كل واحد منا في السعي لهذا المجتمع؛ المجتمع الذي يبتني على عبادة الله عز وجل؟

فما يجمع كل جماعة لا بد أن يكون مجموعة من المبادئ التي تحقق لهم أهدافا يسعون إليها، وأهدفنا تنطلق منا، ومبادئنا تعيش في داخلنا، فإذا كان الواحد منا يشترك مع مجتمعه في أهدافه ومبادئه فهو ينتمي إلى ذلك المجتمع، وإذا لم يشترك مع مجتمعه في مبادئه وأهدافه فهو لا ينتمي إليه في الواقع، فحري بكل مؤمن أن يسعى لأن يكون له دور في تحديد المبادئ التي يشترك فيها مع مجتمعه والتأسيس لها، وفي إبرازها وتحقيقها والسعي إليها. لكي يكون فعلا ممن حمل رسالة الله وحافظ على أمانته تعالى في المجتمع، ويمكن حينئذ أن يكون من البلغاء إلى الأمم.

فإذا وجدت مجتمعا -كبيرا أو صغيرا- يعاني من الشعور بنقص انتماء أفراده إليه، وقلة وجودهم في محيطهم الاجتماعي، فهذا يرجع إلى عدم وحدة الأهداف والمبادئ والغايات. فإذا لم يكن الفرد قد تغذى بأهداف ومبادئ تجعله يشعر بانتمائه إلى ذلك المجتمع الصغير، فلن يهمه أن ينتمي إليه، ويمكن أن يكون ذلك راجعا إلى حالة طارئة مؤقتة مرتبطة بظرف معين يمكن التخلص منها، لكنها إذا كانت مرتبطة بالمبادئ والأهداف فهي تحتاج إلى علاج.

والحمد لله رب العالمين 

*السيد إبراهيم الشخص، رجل دين وأستاذ حوزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى