أقلام

الغفلة عن النفس

د/ عبدالجليل الخليفة

ليست كل قناعة حقيقة، فهناك الكثير من المسلمات البشرية ثبت عدم صحتها، فمركزية الأرض أستمرت ألفي عام حتى ثبتت مركزية الشمس علميا. و هناك فكرة وجود الأثير الذي يملأ الفضاء والتي بقيت مسلمة حتى أثبت العلماء وجودالفراغ الكوني بين الأجرام السماوية قبل مائة عام فقط. و نظرية الجاذبية لنيوتن التي تم استبدالها أخيرا بنسبية أينشتين و إنحناء نسيج الزمان و المكان. و هكذا يتطور العلم الطبيعي ناسفا الكثير من النظريات العلمية المشهورة بنظريات جديدة أكثر دقة و أصح تطبيقا. لقد أستطاع الإنسان تحقيق هذه الإنجازات العلمية في عالم الطبيعة و أثبتها علميا و هو يكتشف المزيد منها يوما بعد يوم. إنها رؤية الآيات في الآفاق، و ليت الإنسان يكتشف الآيات في نفسه فيقترب من الحقيقة أكثر و أكثر، يوما بعد يوم!!

يصنع الإنسان الإنجاز داخل نفسه، حيث تتفاعل الأفكار مع المشاعر الروحية و العاطفية بطريقة رائعة، ثم تتحقق الأفعال الخارجية، و التي تبقى أثرا خالدا في هذه الدنيا. و يستمر هذا التفاعل مادمنا أحياء و يتواصل معه إنتاجنا لآثارنا الخالدة المادية و غير المادية حتى نفارق هذه الحياة. و لكن لماذا لانشعر بعملية التفاعل المعقدة هذه؟

لماذا نغفل عن التفاعل الرهيب في أنفسنا؟

هناك الكثير من الحوادث التي تحيط بالإنسان دون أن يحس بها. بعض هذه الحوادث طبيعية. خذ مثلا: تتحرك الأرض حول محورها و حول الشمس و مع المجموعة الشمسية في مجرة درب التبانة بسرعة رهيبة جدا و نحن لانحس بهذا. و حين نركب قطارا سريعا و نجلس على أريكة مريحة في عرباته، ننظر الى الأشجار الثابتة و كأنهاتتحرك في الإتجاه المعاكس بينما نحس أننا ثابتون. هكذا ننسب الأشياء كلها الى وضعنا و سرعتنا، فمن يمشي بسرعتنا فهو ثابت مثلنا، و من هو واقف على الأرض يبدو لنا و كأنه يسرع بالإتجاه المعاكس لنا.

و بالمثل نحن نعيش تحت تأثير تفاعل رهيب و متواصل بين أفكارنا و أرواحنا و عواطفنا و أفعالنا، و حيث أن هذا التفاعل مستمر و غير منقطع و يحدث غالبا في العقل اللاواعي و حيث يحدث الإدراك و يصنع القرار فنحن غافلون عنه تماما. أما أين يحدث كل هذا، فذلك موضع خلاف بين فريقين، أحدهم يرى الدماغ كجهاز استقبال و إرسال فقط، أما الفكر و الإدراك و صناعة القرار فخارج العالم المادي، بينما يرى الفريق الآخر أن الدماغ مركز لكل الفكر و الإدراك و صناعة القرار.

و هكذا تسري هذه الغفلة على البشر حولنا، فلا يحسون بتفاعل أفكارهم و مشاعرهم داخل أنفسهم، و لانحس نحن بتفاعل مشاعرهم و أفكارهم بل نراهم يعيشون كما نعيش.

هكذا تجري أكبر عملية تفاعل داخل أنفسنا فينتج عنها قرارات مصيرية و أفعال خارجية تغير مسار التاريخ و لا نكاد نحس او نشعر بهذه العملية المعقدة، لأنها أصبحت طبيعة لنا. هذا بالضبط هو نفس شعورنا بالإستقرار و عدم الحركة بينما نستقل قطارا يسير بسرعة رهيبة لكنها غير متغيرة. نعم نرى المريض الذي فقد عقله فلا تتفاعل أفكاره و عواطفه و مشاعره الروحية و كأنه الشخص الواقف على رصيف المحطة و نحن نعبرها بالقطار السريع فنراه و كأنه هو الذي يتحرك بسرعة في الإتجاه المعاكس لنا، بينما نحسب أننا واقفون.

ماهو أثر الغفلة عن النفس و تفاعلاتها؟

إن الغفلة و عدم الإحساس بهذا التفاعل الرهيب يفقدنا الكثير من الفرص لصناعة المستقبل و إنجاز المزيد من التطور الحضاري. إنه يشبه إطفاء النور و أنت تمر على ممر جبلي فوق واد سحيق. فالغفلة عن النفس قد تقود الى القرار الخاطىء، كما أن إطفاء النور قد يهوي بالماشي في الظلام الى الوادي السحيق. إن الغفلة عن هذه الحركة المتفاعلة داخل نفوسنا تولد شعورا خاطئا بالسكينة فيما يشبه الموت السريري في قطار الحياة المنطلق بسرعة الضوء نحو المستقبل. أما كيف يحدث هذا التفاعل في نفوسنا فهذا ما سنناقشه مستقبلا إن شاء الله تعالى.

 

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. الاخ العزيز د. عبدالجليل الخليفة, شكرا لك.
    ما اجمل هذا التعبير : (إن الغفلة عن هذه الحركة المتفاعلة داخل نفوسنا تولد شعورا خاطئا بالسكينة فيما يشبه الموت السريري في قطار الحياة المنطلق بسرعة الضوء نحو المستقبل.) – تحياتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى