أقلام

الصفر الممتنع

أحمد الحسين

منذ التحاقي بعالم التواصل الاجتماعي قبل ثلاث سنوات, لم يستهوني في هذا العالم سوى قصص الملهمين والناجحين, الذين بدأوا حياتهم من الصفر إلى أن حققوا أعلى النجاحات في مجالاتهم. كنت أظن قبل انضمامي لهذه العالم أن هذه الشخصيات مجرد شخصيات وهمية لا وجود لها في الواقع, ولكني الآن أعيش يومياتهم أولاً بأول وأستمع مباشرة إليهم, بل وأتحدث مباشرة معهم. إنهم شخصيات عصامية جذابة ومثيرة للإعجاب. آخرهم كان ابن صاحب الشركة التي يعمل بها والدي فعمره لم يتجاوز السابعة عشر واستطاع الانطلاق من الصفر وتكوين شركته الخاصة دون الاعتماد على أموال أبيه كما يذكر في كتابه الذي أهداني إياه أبي.
منذ ثلاث سنوات وأنا أحلم باللحظة التي أكون واحداً من هؤلاء وأتحدث للناس عبر قناتي في السناب شات عن بدايتي الصفرية والصعوبات والتحديات التي واجهتها وتغلبت عليها بقوة إرادتي. لم يعكر صفو هذا الحلم إلا سخرية صديقي فاضل الذي يظل يضحك بخبث كلما حدثته عن واحد من هؤلاء. صديقي فاضل كان دوماً يكرر على مسعمي كلما حدثته عن أحدهم:

لا تصدقهم أيها الأبله فهؤلاء أبناء عوائل ثرية وهم يتصنعون الكفاح والمثابرة.

هذا الوغد سيقول عني ذات الكلام ويطلق سخريته عليَّ عندما أبدأ مشوار كفاحي وأطل على الناس عبر قناتي في السناب شات فوالدي يرأس إحدى الشركات الأهلية الكبرى في البلد ونحن نعيش في حالة ترف داخل هذه البيت الذي يشبه القصور.

قبل عامين استطعت بخبث أن أقنع والدي بترك هذه الوظيفة المرموقة وأن يرتاح بعد عناء هذه السنوات وكنت فرحاً جداً حين وافق على مقترحي بعد إلحاح شديد. صديقي فاضل لن يستطيع أن يسخر من كفاحي ونجاحي بعد الآن فلن أعود ابن ذلك المدير التنفيذي في تلك الشركة الكبرى.

بعد طول انتظار عاد أبي في آخر النهار مع عمله ليخبرني أن صديقه صاحب الشركة رفض طلبه وعوضاً عن ذلك ضاعف راتبه ومنحه إجازة مفتوحة وتذاكر سفر حتى يجدد نشاطه ويعود للعمل بنفسية أفضل. ضحك والدي وهو يخبرني بذلك وطلب مني أن أجهز نفسي للسفر بعد أسبوع دون أن يشعر بحجم الخيبة التي منيت بها. وقتها أطل علي رأس صديقي فاضل من النافذة وهو يضحك بشماتة وسخرية كإطلالة وضحكة “اقحطة” في مسلسل درب الزلق.

تباً لقد فشلت الخطة وأبتعد حلم الصفر أكثر وستزداد سخرية صديقي فاضل من أي نجاح عصامي سأحققه بعد الآن.

قبل أن نسافر تواصلت مع عصابة عبر تويتر واتفقت معهم على سرقة كل شئ في البيت حتى طعام “سوسكة” قطة أختي مريم وأعطيتهم نسخاً من مفاتيح كل الأبواب وخطة كاملة للسرقة حتى لا يعترضهم أحد.

بعد عودتنا كان الجميع منصدماً من منظر القصر الذي أصبح مجرد جدران جرداء وقد بالغ اللصوص في السرقة فلم يتركوا حتى صنابير المياه ولا مصابيح الإنارة.

كنت أتظاهر بالصدمة والانزعاج وأخفي بداخلي مشاعر الفرح فها أنا الآن أقترب من حلم معانقة الصفر والانطلاق نحو المجد فأبي سيبدد كل ما يملك في إعادة تأثيث هذا القصر ولن يستطيع ذلك الوغد السخرية من كفاحي وأنا أطل بشموخ على جمهوري وأحكي لهم حكايات المثابرة وتذليل العقبات والصعاب.

لم تدم هذه الفرحة طويلاً حين تم منح والدي شيكاً بأكثر من قيمة المسروقات بضعفين من قبل شركة التأمين اللعينة.

هذه المرة لم يكتف صديقي الوغد بإرسال شبح وجهه القحطوي من أجل الضحك والسخرية وإنما أرسل معه وجه “اقحطه” شخصياً وصار المكان يضج بضحك الإثنين معاً.

قبل شهر طلب مني والدي أن أجدد تأمين المنزل وتأمين السيارات لدى شركة التأمين سيئة السمعة فلم يتبق سوى عشرين يوماً على نهاية التأمين. والدي لا يعلم كم يستفزني ذكر اسم هذه الشركة ويذكرني بخيبتي ونهاية حلمي في بلوغ صفر المجد. أكره التعامل مع هذه الشركة اللعينة لذا ماطلت في التجديد عدة أيام بعدها قررت بخبث ودهاء عدم التجديد وعدم إخبار والدي بالأمر.

مضت الأيام العشرون وانتهى التأمين وتنفست الصعداء. بعد أيام من الانتظار ها هي الفرصة قد سنحت أمامي ولم يعد بيني وبين الصفر العظيم سوى أقل من ساعة. البيت فارغ تماماً من أي أحد وبخفة وسرعة اشلعت النيران في كل غرفة وفي كل ركن في البيت وخرجت سريعاً أراقب اللهب وهو يتصاعد في السماء ملتهماً كل القصر الفاره ومحطماً كل العقبات نحو صفري الحبيب. هذه المرة كان وجهي من يخرج من بين اللهب ضاحكاً بضحكة “اقحطه” بينما كنت أرى وجه صديقي فاضل تأكله النيران خاسئاً ذليلاً.

وثقت هذا الحدث المفصلي التاريخي أمام العالم عبر نشر صور بيتنا والنيران تبتلعه من خلال حسابي في تويتر. خلال دقائق قليلة كانت الصور تنتشر في كل وسائل التواصل الاجتماعي وتجمع حول بيتنا كل مشاهير السناب شات في المنطقة لتوثيق الحدث. تفاعل الجميع مع صور الحريق ومع عباراتي المتظاهرة بالحزن والأسى.

غرد أحد الذين كنت أتابعهم بشغف ومعجباً جداً بكفاحهم والذي أنشأ شركة مقاولات عملاقة من الصفر “لا تقلق يا صديقي فصيانة كامل البيت علينا”.

بعده غرد صاحب مؤسسة ديكورات “لا تقلق فنحن نتكفل بكامل ديكورات المنزل”

وبعده صاحب شركة أثاث “لا تقلق. كل أثاث المنزل هدية لك”

“لا تقلق. من أجل الوالدة المطبخ بكامل أدوته عندنا”.

وظلت العروض المجانية تنهال عليَّ كالمطر وأنا في حالة من الغضب المتزايد حتى ظهرت لي “سوسكة” في شاشة الجوال وهي تموء بطريقة “اقحطة” حين وصلتني تغريدة

“لا تقلق. شركتنا ستوفر طعام “سوسكة” لمدة عام مجاناً”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى