أقلام

بشت والدي وصقيع الشتاء

أمينة الرمضان

تمر ببلادنا موجة برد ما أقربها من موجة البرد التي عشناها في مرحلة الطفولة المبكرة ، ولكن شتان ما بين التعايش معها في هذا الزمان وذاك الزمان،
ذكريات لا يعرفها إلا من عاصروها في الثمانينات الهجرية، وما حولها من القرن الماضي.
كانت بيوتنا من طين يتوسطها حوش مفتوح على السماء يتلقى البرد والصقيع،
ويحملها لأجسادنا الصغيرة،
نصارعه بالكنابل (البطانيات) وما وجد من الملابس الشتوية، ولكنه كان دومًا يصرعنا في جولاتنا معه فيكون هو المنتصر،
لا أزال أتذكر معاناة أبي رحمة الله عليه وهو يشق الأثبار وسط الصكة بمساعدة الجيران، لكي يتسنى للمطر أن ياخذ مجرى بعيدًا عن بيوتنا.
كان الرجال يلبسون الخيش على رؤوسهم وهم يثبرون الأرض لتقيهم من المطر.
كننا نحن وبقية الأطفال أولادًا وبناتًا نستمع بالخوض في الطين والمطر إلى منتصف سيقاننا،
فنرجع إلى البيت مبللين متسخين فنتلقى صفعة كف، او صفعة مرض.
كان أبي يشعل الحطب كل صباح في منقلة الفحم ويجلسنا حولها، بينما تبادر أمي لتحظير سندويشات الصمون لنا لنأكلها قبل الذهاب للمدرسة.
وبالرغم من أن المسافة بين المنزل وموقع انتظار حافلة المدرسة لم تكن طويلة، ولكن الانتظار في الشارع لبعض الوقت يجعل فرائصنا ترتجف وأسنانا تصطك.
ونتباهى بالبخار الخارج من أفواهنا كل صباح.
وفي كثير من الأحيان كنا نذهب للمدرسة مع ارتفاع حرارة أجسامنا، فتأخذنا المشرفة إلى الوحدة الصحية.
كان هذا الحدث رغم كونه ظرفًا مرضيًا، ولكننا كنا نستمتع به وكأننا ذاهبون لمؤتمر عالمي، فنفرح لتملصنا من الحصتين الدراسيتين وندخل متباهين على الطبيب لنشرح له الأعراض بسعادة بالغة، وإذا ماكتب لنا الوصفه وأخذناها رميناها في ناحيه من المنزل غير مبالين بها، كحالنا من عدم الاكثراث بارتداء الملابس الثقيلة، ونسمع على الدوام كلمات العتاب والتقريع من أهلنا، ولكن لاحياة لمن تنادي، كم من مرة حملنا والدي أو والدتي لعيادة الدكتور وحيد أشهر دكتور في المنطقة،
فيبادر بضربنا إبرته السحرية التي نشعر بعدها بالشفاء العاجل ونحن ننزل درج عيادته.
وعند حلول المساء يجمعنا أبي ليضع الفازلين الأخضر على أيادينا الصغيرة المتشققة من جفاف الجو وبرودته، ويجلسنا حول الموقد فنشعر بحرارة الجروح لفترة، يحاول أبي أن يخفف علينا من خلال حزاويه وفوازيره الجميلة والأناشيد الشعبية التي يفتقدها الآباء في هذا الزمان، ومن ضمنها هذه الأنشودة:(عشعشتي وعشعشتي،
دخلتي الدار ونبشتي،
وبقتي حووويجه ونحشتي).

كروز أمي مليته خذته ودعدعيته
في غرفة الماليه
فيها حسن عطيه
عطيه وش حملته
حملته براس بطه بطه)
حتى آخرها..
حديرجه بديرجه،
وطير طار في الأبحار،
لا له ريش ولا منقار،
كان لبشت أبي نكهة خاصة، فرائحة سيجارته ممزوجة برائحة فحم المنقلة، تجعلنا نعيش في جو الحنان الأبوي، وعندما يدخلنا تحت بشته ويغطينا عن البرد القارص لا نرغب في الخروج من تحت البشت، فنحس بفتور وخدر طبيعي يجعلنا نغط في نوم عميق وراحة ليس لها مثيل، ولا سيما إذا كانت ليالي عاشوراء نغط ونحن نستمع لأبيات رثاء من والدتي أو بيت شعر من والدي.
فكم من ليالي جميلة مرت وقد اجتمعنا حول الجمر نشوي أبوفروة ونستمتع بطعم الحليب الطازج مع البغصم اللذيذ الذي تكتمل سعاتنا القصوى معه عندما يزورنا خالي الحبيب مع عمتنا الحبيبة حاملين لنا معهم تنك الحلوى والرهش، فتجتمع العائلة على فطور جماعي نتغذى فيه على الحب الإلهي وحب أهل البيت عليهم السلام، قبل أن نتغذى على الطعام البشري، فهذا يسرد فضيلة، وتلك تسرد ذكريات زيارة، ونحن نصغي للجميع بمنتهي السعادة والسرور.
اليوم وبعد مرور هذه الحقبة الزمنية تمر علينا موجة البرد نفسها، ولكنني لا أكاد أحس بها إلا من خلال وسائل التواصل وصوت المطر الذي يقرع النوافذ، فملابسي دافئة وسريري وثير دافئ،
و لكن لابد أن هناك من يعاني ويصارع موجة هذا البرد، وكل ما أملك أن أدعو الله أن يخفف عن عباده ويقدرنا على شكر نعمه من خلال مد يد العون لمحتاج أو بردان لا يملك وسيلة تدفئة.
اللهم اجعاها موجة أمن وأمان وسلم وسلام لجميع عبادك الضعفاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى