أقلام

العاملي الثالث

عبد الجليل البن سعد

السيد الترحيني اسم كان يرن بين قاعات حوزة قم ومدارسها العربية، فعاش مع اساتذتها الأفذاذ فترة اقتران كوكبي تُشكل خطا مستقيما من الاضاءة في الأفق العلمي، وقد كساه جمال العلم ثيابا حسنة التفصيل، فجبة من نسيج الهيبة و رداء من الاستاذية وعمامة من الوقار حتى اكتملت فيه حلية التقوى..

رداء الاستاذية:

ويتميز تعبيرنا برداء الأستاذية عن الوصف المشهور “كرسي الاستاذية” في كون هذا الوصف الجديد يضع في تصور المتلقي معنى الاستاذية السيارة، فأينما يجلس صاحب هذا الرداء يتحول المجلس إلى درس و بحث وإفادة، عدا عن الكرسي الذي ينتظر الساعة المحددة لاستواء الأستاذ فوقه محاطا بتلاميذه، و لا يليق هذا الرداء إلا بالصانع، وإن تجرأ على تقمصه متصنع فارغ فإنه لابد أن يزل ويعثر في مشيه به مهما طال المدى!

وليس من نبأ خاص بالسيد الترحيني في هذه الحدود من التصوير والتوصيف قبل أن نعرف بأنه “قدس الله في الصالحين ذكره” عاش في قم أستاذا لمرحلة السطح وكأنه متمحض فيها ولكن أستاذيته هذه كانت وبلا شك أعمق في النفوس وأكثر تبجيلا من أستاذية الكثير للبحوث الخارجة؛ اذ لم يزنوا في الذوق العام ما يزنه هذا السيد المعلم من تبجيل وثقة علمية!

ولا يزال وراء هذه الأستاذية أنباء غير عادية، فغالبية الأساتذة والأفاضل الحاليين في الحوزة العربية هم ممن قد نقش زخرفته فوق عقولهم الفضية بأقلامه الفولاذية الناعمة كما ينقش الصائغ المحترف على قطع الفضة المعدنية، فما أكثر المتصدرين للتدريس اليوم ممن هم في عداد المتخرجين على يديه في تلك المرحلة، والجدير بالتنبيه أنها الصفة التي اشترك فيها على مستوى حقبة واحدة كل من السيد الترحيني في جانب الحوزة العربية والشيخ مصطفى الاعتمادي في جانب الحوزة الفارسية، وثالث لهما اليوم هو الشيخ محمد باقر الأيرواني فكلهم معزوز بعز الأستاذية، ويتميز هذا السيد بكونه من الأوائل المؤسسين للقسم العربي بحوزة قم المقدسة.

وأهم ما يشار إليه أن طلابه من الخليجيين كثر وجلّهم من الفضلاء المتصدرين اليوم لخدمة الحوزة العلمية ومشاريع التبليغات الدينية وفيهم من سبقه إلى الجنان إن شاء الله تعالى، و صدقا لم أكن لأتأخر عن كتابة هذه السطور الا من حيث كنت اتوقع ان تثير وفاته نشاطا تكريميا وتأبينيا على مستوى المقالة والكلمة والنغم الرثائي بين طلابه، ولعل الأيام القليلة المقبلة ستطالعنا بشيء من ذلك.

السلسلة العاملية:

هي ليست سلسلة إجازات ولا سلسلة رواة، ولا أي سلسلة من سلاسل النقابة أو الرئاسة، ولكنها سلسلة اصطفاء لا يليق إلا أن يكون ربانيا، ففي القرن الثامن الهجري وضع الشيخ محمد بن مكي العاملي كتابه اللمعة الدمشقية متنا فقهيا، فجاء آية كبرى بين المتون، و قُفي بشرح عاملي للشيخ الجبعي العاملي باسم الروضة البهية، وهو أيضا معجزة في الشروح، إذ أصبح هذا الشرح البهي كلوح فضي مرصع بالتعليقات والتذييلات والحواشي العلمية لفقهاء مسلطين من عرب وعجم، ولكن لم يأتِ بين تلك المتابعات على هذا الشرح ما يمكن أن يكون ثالث الإثنين إلا ما نكته قلم هذا السيد العاملي في شرحه على الشرح، فهذه هي الروح العاملية المتسامية..

فإذا كان الأول قد حفظ المهمات من المسائل، فالثاني ازدان بالفروع والوجوه دون أن يغادر منها شيئا، وأما الأخير فقد جمع بين فقه الإحصاء، وفقه الإستقصاء، وفقه الانتقاء ، فهو العاملي الثالث في سلسلة اللمعة الدمشقية، وقد ابدع في فن العبارة الجزلة ـ وما أدراك ما فن العبارة ـ التي تعد آية بمفردها لا ينالها إلا بعض الأوحديين من الفقهاء، فلم تكن تذكر الا لمثل المحقق الحلي في شرايعه، والشهيدين الاول في لمعته والثاني في روضته، والامام الحكيم في مستمسكه، وظني اليوم ان الزبدة الفقهية لمؤلفها الترحيني قد وُفقتْ في ان تنهج النهج نفسه.

تـوازن العقل والعاطفة

وحسبُ السيد محمد حسن انه قد اثبت اختلافه عن الكثير في المزاج الاجتماعي العام الذي من سماته الانجرار اللاشعوري وراء بعض الرموز او العناوين فتبدأ وطأة العاطفة في الضغط عليه وعادة ما يرى الناس في الانجرار والاستسلام شيئا من الراحة يخلصهم من ذلك الألم!! والسيد العاملي استطاع وبتقديري ان ينجح في ادارة العاطفة في موقعين من حياته:
أ) الرموز:
يتبع الطالب  استاذه ويذوب في هواه وربما يحمله ذلك على تقليد خطواته في مساراته العلمية والاجتماعية، فيتعصب له كما يتعصب الابناء لآبائهم بل تشير الدراسات في النظم والمذاهب الى ان رؤس العديد من المذاهب الناشئة هي اساتذة مهيمنون!! ولكن هذا السيد الكبير ورغم ارتباطه العلمي ـ عن طريق التلمذ ـ مع بعض جهابذة العلم في الحوزة العلمية آنذاك والذين قد عصفت بحياتهم العواصف، لم يخسر استقلاله بالانجرار العاطفي خلفهم، ولم يرث عنهم الا الفقاهة والشموخ العلمي فقط دون ان ينزلق في نظرتهم وانطباعاتهم الخاصة تجاه الواقع المعاصر، وهذا  موقف مشهود من المصالحة بين العقل والعاطفة.

وأني استعين في ابداء هذا الحديث على متابعة طفيفة لمشاركاته وعلاقاته التي اظهرته في مواقع كانت سيرة بعض اساتذته وطلابهم على مقاطعتها والتحسس منها !!
ب) العناوين:
من العناوين الدينية الشعاير وفي جدول الشعاير نجد بعض المسميات ذات واقعين متناقضين فهي على وجه تمثل السنة وتمثل الفتنة على الوجه الآخر أيضا، ولو اخذنا الشعاير الحسينية صورة ومثلا فان الكثير حاول ان يمسك بخيط الاعتدال فيها ولكن مثلهم كمثل الخياط العجول الذي انطوى خيط البكرة على اصبعه ولم ينجح في فتله الا بقصه وقطعه؟!
وجاءت الالتفاتة العلمية التي تجمع بين الذوق الشرعي وقواعده من جناب السيد الترحيني فكاد كتابه الشعائر المنصوصة ان يكون اول دراسة استدلالية معمقة وفنية لموضوعة الشعاير..
وهكذا استطاع ان يحل الخصومة بين العقل والعاطفة ويعيد كلا الى نصابه العاطفي والعقلي بتقنية ولغة علمية لا تكلف فيها ولا تملق..

مقاومة الدواهي:

كل الدواهي عظام واعظم ما فيها ان ترى نفسك يوما ما تحت رحمة من انت احق به من نفسه واعلى منه وهو في قوته فكيف بك اذا طعن فيك وهو لا يزال على بساطته وعدم أهليته!!
أجل شاءت الاقدار ان يذوق الاستاذ القدير مرارة الدواهي في غمز ونبز في علميته، ولكنه الفقيه الذي لا تضيق عليه المسالك” اذ قد انتجع الصبر موقفا، وادار المشهد بحكمة، وسطّـر على صفحة التاريخ درسا يجب ان يتلقاه جميع الطلاب بعده..لكنه كان يدرك بألمعيته ان التظلم بالصوت المرتفع فضلا عن رد الهجمة بالمثل، فعل كلا الطرفين فيه خاسر، ولا رابح فيه الا المتربص للعثرات داخل الحوزة العلمية، لذا فقد لاذ بالفطنة وعاذ بالحكمة فابتعد عن خط الصدام وكتب بعض كتبه التي تنادي بالتحدي وتخرس لسان التعدي، فكان كتاب الإحكام في علم الكلام الذي اذا قُرنا بنظائره من المختصرات الكلامية بدا كشرح لها ناظر اليها رغم اختصاره، وكان كتابه الزبدة الفقهية بشرح الروضة البهية وهو الذي عرضت لمزاياه عما قليل مضى من السطور.

شتان وشتان ما بين هذا الموقف النبيل والذكي وبين موقف من انقلب على كيان الحوزة كله واخذ البرئ بذنب السقيم انتقاما لنفسه بصورة عاد المظلوم فيها ظالما والظالم مظلوما!!

المكتبة نافذة أخرى للتعرف:

كان من أثار تسخره العلمي والفكري لموضوعات العصر جملة من الكتيبات الشيقة، ربما ستستطيع بقراءة بعضها ان تتعرف على ملامحه الفكرية اكثر من اي انطباعات يتحدث بها المؤبنون أمثالي، وفي ختام هذه المقالة اليسيرة أود أن أرشح لطليعة الشباب كتابا طوى فيه عالمنا الراحل خارطة واضحة ومبسطة لعقلية التفكير، لن تستدعي من شبابنا المؤمن سوى بضع ليالي لا تزيد على الاربع وهي عدد فصوله، واعني به كتاب “الاسلام والعقل”، فكم سعى من خلاله ان يشرح موقع العقل في فهم السنن الكونية، وما هو دوره في عالم الشهود، وعالم الغيب! وليس أروع من حديثه المؤثر في ان الانسان ليس عقلا محضا بل هو نفس وبدن لا يستخف بتأثيرهما على العقل!!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى