أقلام

انهيار المنظومة الأخلاقية في المنظور القرآني

السيد فاضل آل درويش

قال تعالى: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا }{ مريم الآية ٥٩ }.
تشير الآية الكريمة إلى حالة التغير والتبدل في الفكر والسلوك بين جيلين متعاقبين، الآباء كانوا في قمة التدين والورع عن محارم الله تعالى والاستقامة، بينما الأبناء – وهم الجيل الذي بعدهم – كانوا على الضفة الأخرى تمامًا حيث وصفتهم الآية بإضاعة عماد الدين وهي الصلاة، للدلالة على تضييعهم لغيره من العبادات، وسواء كان تضييع الصلاة بتركها أو قلة الاهتمام بأحكامها أو تأخيرها عن وقتها، والصفة الأخرى هي الغفلة عن يوم الحساب والخلود إلى الدنيا والافتتان بزينتها، فكانت النتيجة هي تجنيب العقل الواعي عن خطاهم واتباع الشهوات المتفلتة التي تأخذهم نحو اقتحام المحرمات بكافة أشكالها ونبذ قانون المباديء والقيم الأخلاقية والتربوية التي تحفظ الفرد من التحول إلى الحياة البهيمية وتحكم الغرائز فيهم، وكذلك تلك القيم تحفظ المجتمع بمظلة الأمان والسلام التي يخيم بها على الجميع، إذ أنه متى ما عاش الناس حياة الانفلات وإتيان القبائح دون رادع أو وازع فإنه سيحول المجتمع إلى حياة الغاب، فيفقد الإنسان عزته وكرامته المتمثلة بالعقل الرشيد الذي يدعوه إلى السمو الأخلاقي وتجنب الانزلاق إلى وحل العيوب والنقائص.
الأحاديث المتبادلة حول الظواهر السلوكية غير المقبولة وغير المنسجمة مع أعراف المجتمع، قد بلغت مدى يفاجيء الكثير بسبب تمزيق ثوب الحياء والخجل والجرأة في الممارسات غير الأخلاقية، بل ولا يبدي بعض الشباب مبالاة ولا اكتراثًا باطلاع الغير على ما يرتكبه، وموضع الدهشة هو أن تلك البيوتات التي تحرص على أداء العبادات وسادت فيها القيم الأخلاقية في الحديث والتعامل قد خرج منها جيل لا ينتمي إليها في الالتزام، فما يرجى من الأسر الملتزمة بالدين وأحكامه أن تنشيء أبناءها عليها وتتابع سلوكياتهم، وتتخذ موقفًا من حالات واضحة لابن يتبنى أفكارًا مغايرة لما تربى عليه وفتاة قد تبدي سخرية بالآداب التي ترعرعت في كنفها، وهنا بيت القصيد: فما هي العلة والخط المفقود في هذا التباين بل وروح الاستهزاء وازدراء القيم الأسرية والمجتمعية،
دس الرأس في الرمال كالنعام ونفي الواقع الجديد لن يغير من الحال شيئًا، ولا يفيد هذا الإنكار لسلوكيات واضحة ومتفاخر بها، بل إن بعض الآباء والأمهات-للأسف- لا يتخذون أي موقف غير الأحاديث العابرة التي تتسم بالتذمر والانزعاج من هذه الظواهر، بينما الموقف العقلائي والديني يدعو إلى تحمل الأسرة دورها في توجيه الأبناء وإرشادهم من منطلق الحوار الهاديء، وصولًا إلى الاستناد على بيان الجوانب السلبية والأضرار الناجمة عن ممارسة الرذائل، فهناك فوضى في الممارسات غير المسئولة بحجة الحرية وممارسة الحق الخاص به، والحقيقة أن الحرية لا تعني الانفلات وممارسة ما يوقع في الضرر والأذى، فالمنطق يدعو إلى ممارسة ما يجلب النفع من جهة دون أن يسبب أي أذى للآخرين. ولعل الشعارات الرنانة كمفهوم الحرية وتحقيق الذات أخذت اتجاهًا خاطئًا نحو التفلت وإلحاق الضرر بالجميع مع انهيار القيم الأخلاقية والاجتماعية، فالمجتمع كالسفينة التي تبحر بأهلها ومتى ما سمح لأي واحد أن يخرق جزءًا منها غرق الجميع، فالوقاية من الأمراض الأخلاقية مبدأ إنساني وعقلي يحفظ المجتمع قبل أن ينخره سوس السلوكيات غير المقبولة والظواهر المنافية للأعراف، وإلا فسيصيب السقم جميع الأفراد بعد انتشار العدوى وعلو صوت الانفلات، خصوصًا ونحن اليوم نتكلم عن قوة مؤثرة بقوة في صياغة فكر النشء وسلوكه، وهي وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بما تبثه من سموم، فالمختصون الاجتماعيون والطبقة المثقفة والخطباء يتحملون مسئولية صياغة الخطاب الموجه نحو الشباب الذي يحذر من السقوط في هاوية الرذائل، بما يتناسب مع مستواهم الفكري والثقافي، بأسلوب حواري هاديء يستنطق تصوراتهم وآراءهم، ومن ثم يتم التوصل إلى القناعة بالقيم الأخلاقية دون ممارسة أي إكراه أو تجاهل لوجهات نظرهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى