أقلام

مكروهة وجابت بنت

يستعرض كتاب “التفكير السليم ، و التفكير المعوج ” لروبرت ثاولس عدة مواقف و أمثلة يكون فيها بعض بني آدم في موقع مزدوجي المعايير ، ويطلقون مغالطات فكرية ، فينكشف الإنسان المغالط أمام الآخرين لعدم موضوعيته في التعاطي مع ذات الموضوع ، في التشخيص ، وطرق المعالجة . يقول الكاتب روبرت على سبيل المثال : في الوقت الذي ينتقد الإنسان ممارسة الواسطة و سوء توظيف العلاقات الشخصية إذا وقع الضرر عليه بسببها ، ترى الشخص ذاته يتبجح بمكاسبه الناتجة عن معرفته لفلان أو فلان الذين توسطوا له لبلوغ منصبه أو حصوله على ترقية .
مثال آخر : في الوقت الذي يذم الإنسان المدير المتشدد إذا مورس التشدد عليه ، تراه يشيد بالمدير ذاته إذا كان هو مراجع لدائرة أو قسم منضبط لوجود كل الموظفين على مكاتبهم حتى آخر دقيقة من وقت الدوام .

و لعل أوضح مثال يدل على ازدواجية المعايير ، وعدم وضوح التفكير لدى البعض من البشر هو مثال الأوبئة التي مرت و تمر على الأوطان ، فالبعض من الناس إذا حل فيروس ما بمنطقة ليست منطقته ، وهو يضمر الكراهية لأبناء تلك المنطقة لأي سبب كان ، أخذ ينعت الآخرين بأقذع النعوت ، ويطالب بالتشدد و القسوة عند معاملة أبناء تلك المنطقة المنكوبة بالوباء ، بل قد يقول ما هو أكثر من ذلك .
والمستغرب أنه إذا حل البلاء ذاته بمنطقته ،أو بمنطقة يميل إليها تراه ينادي بأن هذا ابتلاء واختبار من الله في حق أحباءه ، و يدعو الناس لتكثيف الجهود ، ورص والصفوف الوطنية لمساعدة أبناء منطقته !

هذه الازدواجية في المعايير والتعامل هي في حد ذاتها بلاء فكري و نفسي كبير ، و قد تكون حالة سائدة في فضاء معين ، ومتنحية في فضاء جغرافي آخر .

ابتلى بني البشر مؤخراً بفيروس الكورونا الجديد (covoid19) ، وأظهر أهل الوفاء و الإخلاص معدنهم بالدعوة لتظافر الجهود و مقارعة الوباء ، والامتثال لتوجيهات وزارة الصحة في بلدانهم ، وإطلاق ندوات التثقيف الصحي ،وتوزيع المعقمات ،وإلقاء المحاضرات ،وتفعيل الإجراءات الاحترازية .
و أظهر بعض الناس – من جانب آخر – من مجهولي الجغرافيا و الانتماء عبر تغريدات تويتر ما ينم عن معدنهم و سقوط إنسانيتهم .

أتساءل : كيف ستكون ردة فعلك لو أصاب جارك أو أحد أصدقاء العمل وباء (covoid 19) بعد سفره أو انتدابه لبلد غير محجوبة ، أو ممنوع السفر إليها ، مثل الصين او إيطاليا أو كوريا الجنوبية أو أمريكا أو نيجيريا أو أي دولة أخرى ؟
هل يكون هذا الوضع بالنسبة إليك مغنماً للشماتة : أو مصدراً للمعاضدة و المؤازرة ؟
قد تلوم جارك المسافر لتلك الدول ، و قد تحجب نفسك عنه ، و قد تنصحه بأن يتقدم للجهات المعنية لحجزه صحياً ، إلا أن هذا لا يعني أنك ستعمل على ضد ما يخفف عنه ما نزل به من مصاب. أليس كذلك؟!

لم أقرأ أي مسح ، أو دراسة، أو إحصائية من أي جهة عن طبيعة الجواب للسؤال السابق ذكره في أي بلد أُصيب بعض مواطنيه بوباء ؛ و لكن تجولت متصفحا في تويتر و بعض مواقع التواصل الاجتماعي في فترات مختلفة في عدد من محطات الوباء عند حدوثها مثل (أنفلونزا الطيور، و انفلونزا الخنازير، و مرض جنون البقر ) و كانت المحطة الاخيرة كورونا (covoid 19 ) فوجدت بعض التغريدات التي أقل ما يقال عنها أنها قاسية جداً ، وتنم عن كراهية مفرطة ، وحقد دفين ، وموغلة في السادية و الفحش في استنطاق الخصومة و التشفي ، ومليئة بالشماته للمواطنين المصابين بالفيروس ،وهي تغريدات مجهولة المنبع بالنسبة إلي . ولكون التغريدات أخذت مفعولاً في صناعة التنفير بحق مكون من النسيج الوطني وجب على كل الشرفاء التعامل مع تلك التغريدات لمعالجة تأثيرها .
حُملت معظم التغريدات على أنها مجهولة المصدر، ولا أعلم من يقف خلفها من ذوي المصالح الخفية ، إلا أننا كأبناء مجتمع نؤمن حتماً ، ويقيناً بأن المختصين بالأمن السيبراني يرصدونها ، وسيوقعون الجزاء الرادع في حق أولائك العابثين و العاملين بما يعاكس رؤية حفظ النسيج الوطني .

ينقل لنا التاريخ أن العرب في عهود ما قبل الإسلام كانوا يئِدون المولودة الأنثى لتعلقهم بالأبناء الذكور لأنهم رمز القوة والسلطة و الامتداد و حمل لقب الأسرة ، أما البنت يومذاك فيبخسونها حقوقها.
وكانت المرأة في تلك العصور السالفة بشكل عام محط الازدراء إلا القليل منهن . و يزداد مستوى الازدراء و البغض للمرأة المتزوجة عندما تنجب بنتاً . و من هنا قيل المثل الذي عنونت به المقال .

فالمغردون يمارسون فعلياً ممارسات قريبة من ذلك السلوك الجاهلي المشين في حق مواطنيهم الذين ابتلوا بوباء صحي ، و عملهم في نعت أبناء طيف مكون وطني كامل يعبر عن حقدهم و كرههم لبعض مواطنيهم بشكل عام إلا أن ضراوة الكراهية ازدادت لأولائك مع ابتلاء بعض أبناء ذاك المكون الوطني بمرض الكورونا الجديد ، وأضحى أبناء ذاك الطيف ضحايا لأسهم التسقيط الإعلامي ، و مصداق حالهم هو المثل الشعبي :
( مكروهة و جابت بنت )
لن تنتهي القصة حتماً بتشخيص الحالة بـ (الكراهية) إلا أنه لابد أن تنجلي هذه الممارسات التسقيطية في حق أي مكون وطني لتجذير شعور الانتماء في قلب كل مواطن .
أؤمن بفاعلية تضافر جهود الشرفاء و المخلصين من أبناء الوطن تصدياً للنعرات ، و بأن الوقت قد حان لردع أولائك العابثين من خلال إصدار قوانين تجريم ، وعقوبات رادعة و فاعلة لحماية النسيج الوطني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى