أقلام

الحل هو الله (الجزء الأول)

نعم، الحل هو الله.
ليس (لفيروس كورونا) فقط، بل لكل مشاكل العالم: التربوية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والصحية، ولكل شيء: الحل هو الله.
فهو سبحانه الذي (تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ الْمَكارِهِ، وَيُفْثَأُ بِهِ حَدُّ الشَّدائِدِ، وَيُلْتَمَسُ مِنْهُ الَمخْرَجُ اِلى رَوْحِ الْفَرَجِ) ولهذا كله، وما هو على شاكلته: الحل هو الله.
هذه حقيقة أوضح من الشمس وأجلى، وأرسخ من الجبال وأرسى، ولكن لا يدركها إلا المؤمنون الصادقون المخلصون، المنفتحون على الله بقلوبهم وجوارحهم، أما الغارقون في ماديتهم حد النخاع، فقد سدوا على أنفسهم منافذ الوصول إلى الغيب، وأقفلوا أبواب الانفتاح على عالم ما وراء المادة والطبيعة، فحرموا أنفسهم من الاطلاع على عالم هو من هذا العالم أرحب وأفسح، وحجبهم ذلك عن رؤية تلك الحقيقة، التي هي أوضح من كل حقيقة وأعظم، فأصبحوا لها -رغم ظهورها- لا يبصرون، ولعظمتها -رغم وضوحها- لا يدركون!!

*الماديون ووهم القوة والقدرة؛

من أعظم ما بلي به الماديون من المصائب أنهم يتوهمون في أنفسهم القوة الكاملة، والقدرة المطلقة، ولا سيما بعد أن حققت العلوم المادية ما حققت من إنجازات علمية كبيرة في الفلك، والكيمياء، والفيزياء، والهندسة، وغيرها من العلوم.
فهذه الإنجازات الضخمة التي حققتها العلوم المادية في أكثر من مجال ومجال، أصابت الماديين (بغرور العلم، وجنون العظمة) وجعلتهم يعيشون (وهم القوة والقدرة) وأنستهم حقيقة أن الإنسان -مهما بلغ من العظمة، وحقق من الإنجازات- سيظل ذلك المخلوق الضعيف العاجز، المفتقر إلى الله سيحانه وتعالى في كل شيء على الإطلاق، كما يقول عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، والآية الكريمة أكدت فقر الناس وافتقارهم إليه سبحانه وتعالى مطلقا، كما وصفت ذاته المقدسة بالغنى مطلقا، وهذا يعني أن الإنسان فقير إليه عز وجل في كل شيء على الإطلاق، وأن الله غني عنه وعن كل شيء على الإطلاق.
بل الإنسان في منتهى الفقر والضعف، حتى أنه بلغ في ضعفه، وقلة حيلته، ومنتهى عجزه، إلى حدّ أن (تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ، وَتَقْتُلُهُ اَلشَّرْقَةُ، وَتُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ)، كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، بل هو -في حقيقته، وخصوصاً أمام الله تعالى- (لا شيء، لا شيء) وإن كان يعيش وهم القوة والقدرة، ويرى أنه كل شيء!!

*مشكلة الإنسان الكبرى:

مع أن هذه هي حقيقة الإنسان في واقعه، إلا أن مشكلته الكبرى، ومصيبته العظمى، هي (الطغيان) ومنشأ الطغيان لديه هو اعتقاده الخاطئ بارتباطه بالأمور المادية، واعتماده على الأسباب الطبيعية، يمنحه القوة الذاتية، والقدرة الكاملة، ويجعله مستغنياً عن الله عز وجل، كما شرحناه قبل قليل.
وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم في قوله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ}، والآيتان الكريمتان جاءتا بعد تعداد نعم الله العظيمة على الإنسان، من التعليم بالقلم، وسائر ما علمه مما لم يكن يعلم، وتستنكر عليه كفرانه بتلك النعم، وجحوده لفضل المنعم بها عليه، وبروز صفة الطغيان، وتعدي الطور، وتجاوز الحد عنده بسببها، بدل أن يشكر الله عليها.
وأما الرؤية في قوله: {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} فليست رؤية بصرية حقيقية، وإنما هي رؤية اعتقادية غير واقعية، بمعنى أنه يرى ويعتقد أنه بما لديه من علوم مادية، وما يعتمده من أسباب طبيعية، أصبح قوياً وقادراً، ومستغنياً حتى عن الغني المطلق، وهو الله سبحانه وتعالى.
وهذا الرأي الذي يراه، والاعتقاد الذي يعتقده ويعيشه، هو الذي جعله يعيش (وهم القوة، والقدرة، والاستغناء عن الله تعالى) مما دفعه إلى الطغيان حتى على ربه، الذي كفر به، واستبدله بالعلم والمعرفة، والملك والسلطان، والمال والثروة، وما هو على شاكلتها من أمور مادية، هي في الأصل من الله، كما أنها لا تنفع شيئا من دونه عز وجل!!
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، ومثله فرعون موسى الذي كان يتباهى بملك مصر، ويحتقر موسى الكليم، ويراه مهينا، حتى أنه نادي{فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} ، وما كفاه ذلك، {فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، وكم لنمرود وفرعون من نماذج طغيان الملك والسلطان في تاريخ البشرية القديم والحديث.
ومثلهم عبدة المال والثروة، حيث أوصلهم انخداعهم بذلك إلى الطغيان، والتحكم في مصير العالم، ومحاولة استعباد الدول والشعوب عن طريق الاقتصاد، حتى أصبحت الحروب الاقتصادية من أسوء أنواع الحروب التي نعيشها في عصرنا الحاضر، وبسببها تضررت دول وشعوب كثيرة.
وكذلك حال المنغمسين في العلوم المادية، حيث اعتقدوا أنها تصلح أن تكون بديلا عن الله، بل ذهبوا إلى أنها أثبتت أنه تعالى خديعة وأكذوبة وخرافة، حتى قال البروفيسور جوليان هكسلي -: (أصبحت التطورات العلمية التي حدثت في القرن الماضي انفجاراً معرفياً في وجه جميع الأساطير الإنسانية من الإله والدين، كما تفجرت الأفكار القديمة في المادة ونسفت بمجرد تفجير الذرة) (وأثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوء خدعة في التاريخ)، أو كما يرى صادق العظم من أن نيوتن (أثبت أنه لا وجود لإله يحكم النجوم، وأكد “لابلاس” بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أسطورة لاهوتية، وقام بهذا الدور العالمان العظيمان “دارون” و”باستير” في ميدان البيولوجيا، وقد ذهب كل من علم النفس المتطور والمعلومات التاريخية الثمينة التي حصلناها في هذا القرن “بمكانة الإله” الذي كان مفروضا أنه هو من يدير شؤون الحياة الإنسانية والتاريخ).

*كورونا يحطم الطغيان:

لم يكن يوم الثلاثاء الرابع من جمادى الأولى عام 1441هـ الموافق للحادي والثلاثين من ديسمبر 2019م يوماً عادياً، بل هو يوم تاريخي واستثنائي في تاريخ البشرية الطويل، فهو يوم عظيم، شكل بداية نقلة نوعية في حياة البشر، وصلت إلى حد قلب العالم كله رأسا على عقب!!
فهو اليوم الذي تم فيه إبلاغ (المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في الصين) عن اكتشاف حالات في (مدينة “ووهان” بمقاطعة هوبي الصينية) مصابة بالتهاب رئوي تسبب أمراضا غير معروفة، وقد تؤدي إلى الموت!!
ولم تطل حيرة الصينيين كثيراً، فما هي إلا سبعة أيام لا أكثر، حتى أعلنت السلطات الصينية، وأيضا يوم الثلاثاء الحادي عشر من جمادى الأولى 1441هـ /7 يناير 2020م عن ذلك الوحش القاتل، والشبح المخيف، إنه (كورونا الجديد) إذ لم يكن هو الأول، بل كان قبله فيروس كورونا الذي يسبب متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم (السارس) الذي انتقل من بعض أنواع القطط البرية المعروفة باسم (قطط الزباد) إلى الإنسان، وكان ذلك أيضا في الصين عام 2002م، وبعده فيروس كورونا الذي ينتقل من الإبل إلى البشر، ويسبب متلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وقد ابتليت به المملكة العربية السعودية في عام 2012م.
ولكن لا مجال للمقارنة بين الفيروسين السابقين وبين هذا الفيروس، الذي ما إن ظهر في الصين حتى انتشر في العالم انتشار النار في الهشيم، فاختطف أرواح عشرات الآلاف من الناس، وأصاب أضعافهم بدائه، وتركهم يعانون الآلام، ويعيشون الخوف من شبح الموت الذي يتوقعون قدومه في أية لحظة، وأما البقية الباقية من سكان العالم فأدخلهم إلى بيوتهم مرعوبين، حتى أصبحت الشوارع في كل البلاد شبه خالية من أهلها، وكأن دنيانا أضحت دون بشر!!
وانهارت دول كنا نسميها (عظمى) وأفلست، أو هي على أبواب الإفلاس دول أخرى، وعلم الطب أصبح مكتوف اليدين، ومنظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة عبرت على لسان مديرها العام (تيدروس أدهانوم غيبرييسوس) عن قلقها الشديد، لسرعة تفشي وباء كوفيد-19، وعدم القدرة على مكافحته بما يكفي، وصنفته (وباءاً عالمياً) وأما قادة العالم وساسته فالكثيرون منهم صرحوا عن عجز دولهم عن مواجهة هذا الوباء، وأكدوا أنهم يتوقعون أنه قد يقضي على 70% من السكان، أي قرابة ثلاثة أرباع الشعب، وأما الجهود التي بذلوها في محاولة القضاء عليه، أو على الأقل محاصرته، والحد من انتشاره، فكلها ذهبت أو تكاد تذهب أدراج الرياح، فها هو كورونا يصيب ويفتك بالأرواح، والعالم كله لا حول له ولا قوة!!
سبحان الله العظيم!!
فيروس صغير حقير هزم العالم بأسره، وأعجز البشرية كلها وبمختلف مواقعها وتخصصاتها عن مواجهته، فحصد منها من حصد، وأصاب من أصاب، وألجأ البقية إلى اللجوء إلى الملاجئ، وهي مع ذلك غير مطمئنة ولا آمنة، وأغلق الدوائر والمنشاءات، وعطل الأعمال، وشلّ الحركة، وأفلس الدول، وكبدها خسائر فادحة، وأطاح بحضارة تمتد لآلاف السنين!!
ألا يحق لنا ونحن نرى هذا كله أن نقول: إن كورونا فضح البشرية، وألحق بها العار، وكشف الحقيقة، وأزاح الستار، فقد كسر طغيانها، وحطم جبروتها، وأقنعها -مرغمة- بأن ما تدعيه لنفسها من قوة كاملة، أو قدرة مطلقة، ما هو إلا زيف ووهم وخيال، وأثبت لها -بالدليل الحسي الملموس- أنها أصغر مما تظنه في نفسها عن نفسها بكثير، فهي عاجزة حتى عن التغلب على فيروس صغير حقير، فذلت له رغم صغره، وخضعت بين يديه رغم حقارته، واستسلمت لبطشه وفتكه رغم بساطته!!
وكورونا ليس هو الجندي الوحيد الذي استطاع وحده أن يهزم العالم بأسره، فقد مرت البشرية في تاريخها الطويل بحوادث طبيعية كثيرة، عجزت عن مواجهتها، وخرجت منها تسحب أذيال الهزيمة والفشل والخيبة، كما هو الحال في (وباء الانفلونزا) بين عامي 1918-1919م، الذي أصاب كل دول العالم، وذهب ضحيته 100 مليون شخص، وهو معدود من أضخم وأسوأ الكوارث التي مرت على البشرية، وغيره من الكوارث الكثيرة التي لا داعي لتعدادها الآن.
ولا أدري، هل هذه الحوادث الكثيرة والكبيرة حدثت نتيجة أسباب طبيعية؟ أم هي انتقام إلهي، أم امتحان رباني، أم إشارات تربوية من الله عز وجل، يبعثها لهذا الإنسان ليوقظه من نومته، وينبهه من غفلته!
لا أدري عن هذا كله، فهو متروك لعلم الله وحده، ولن أحاول أن أرجم بالغيب، وكل ما أدريه هو أن هذه الحوادث -بمختلف أنواعها، ومنها فيروس كورونا الذي يغزو العالم ويفتك بأهله الآن، وبغض النظر عن أسباب وكيفية حدوثها- دمرت كبرياء الإنسان، وقضت على جبروته، وحطمت طغيانه، وكشفت له حقيقة نفسه، وأبانت ضعفه وعجزه، وأثبتت أنه لا يملك شيئا من الحول والقوة، فضلا عن امتلاك القوة الكاملة، والقدرة المطلقة!!
ومن يبلغ في ضعفه وعجزه إلى حد أن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، يستحيل أن يملك ذلك لغيره، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ولهذا علينا: أن لا نتوقع الخلاص على يد هذا الإنسان الضعيف العاجز، ولا أن نترقب الحل من عنده، بل الحل هو (الله)
أما كيف يكون ذلك، فله مقال آخر إن شاء الله تعالى.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كل أسلحتهم وعوامل النفخ التي ينفخون بها ذواتهم ووسائل سيطرتهم على العالم تهاوت أمام شيء لا يرى بالعين المجردة 👌🏻👌🏻👌🏻 شكرا لطرحك الرائع أستاذ علي .

    أ. رباب النمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى