أقلام

العشق واحتجاب المعنى

كاظم الخليفة

﴿ويؤثر أن جماعة من المتكلمين وأهل الآراء والنحل، اجتمعوا يومًا بمجلس يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، فطلب إليهم أن يتحدثوا في الحب وطبيعته وسببه، فقال علي بن الهيثم: الحب ثمرة المشاكلة، وقال أحد الخوارج: إنه لا يكون إلا بازدواج النفسين وامتزاج الشكلين، وقال علي بن منصور الشيعي: إنه لا يكون إلا من ناحية المطابقة والمجانسة في التركيب، وقال أحد شيوخ المعتزلة: إنه نتيجة المشاكلة وغرس المشابهة﴾!؟
(الحب العذري عند العرب: د. شوقي ضيف، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1999، ص12)
عند موضوع الحب، ليس عليك سوى أن تسترخي؛ وتتخلى عن التعريفات النفسية والفلسفية والكلامية وأية ادعاءات ثقافية أخرى بأن في مقدورها شرح المصطلح، وتوجه إلى الشعراء وحدهم؛ فهم الذين سيصلونك بجزء من مفهومه وأنت مضطجع على أريكة من شوق. باعد بين يديك وكأنك تزيح الهواء الثقيل الذي يحجب المعنى، وباتساعهما تكون المسافة لمقدار التباين بين الرؤيتين الثقافية-الفلسفية والشعرية. فلدى الفلاسفة والمتكلمين لا تجد سوى مصطلحات غامضة، وبعض من مصطلحات مُنفرة كـ “الصخب العاطفي”، أو “الرضيع الزنان” الذي هو مآل الحب ونتيجته، ولون من حيل الطبيعة للحفاظ على الجنس البشري كما يحاول تفسير تلك العاطفة الفيلسوف الساخر والمتشائم الألماني شوبنهاور عند وقوفه على نتيجة الحب وأثره وليس على بواعثه وانقداح شعلته. فالعشق لديه ليس سوى “وهم عاطفي” يزول بمجرد «الانشغال بالطفل الرضيع الذي لا يكف عن تأريقهم في مهد يصير هو القبر لزوجين عابثين؛ فيلهون بحذائه المزين متفاخرين بما يفعلونه ويهددون به أمن المارة»!؟ أما من نظر إليه بإيجابية، كهايدغر مثلًا، فهو تحدث عن أثره في النفس وليس عن كنهه وتشكل ظاهرته بقوله «أن الحب يمتلك القدرة على أن يجعل الإنسان يتجلى أمام ذاته، وذلك عندما يكون هناك كيان إنساني آخر يعهد إليه بنفسه، وحينها ليس بمقدوره ولا استطاعته أن يوقف ذلك المد».
تلك إذن هي الرؤية المادية عن الحب، أو كما توصف بأنها “فلسفة مصففي الشَعَر”، أما عندما نذهب إلى القصيدة ونختبر المعنى برؤيته “الوردية” الأنثوية، لشاعرتين عربية وفرنسية، فنجد النقيض لذلك المفهوم وإن لم نحصل على المعنى كاملًا.
نبتدئ بالشاعرة الفرنسية آنا دونُواي – حتى لا يذهب عنا السياق الأوروبي – ونستطلع تجربة الحب “الناضج” لسيدة خبرته بذائقة تجتهد في وصفها بالرغم أنها أثناء محاولتها لشرح تلك التجربة لا تمنحنا سوى إشارات وظواهر على الصفة والهيئة. فالمعنى المباشر مستحيل لفرادة موضوع الحب وتعاليه الروحي، وأيضًا لأن مهمة الشعر ليست الشرح والتنظير بل التلويح بالمعنى: «إنني ممتلئة بالحب، بالاندفاع / وأتضوع برائحة طيبة / وقد مزج اللازورد خيوطه في جسدي / ويبدو فجأة أمام نظرتي المندهشة / أن ما أزهر ليس هو المرج / بل عيناي اللتان تنظران إليه / حتى إنني لو أردت إغماض عيني / لبقيت أرى فيهما الشمس والوردة».
هذا هو أثر الحب، حيث تماهي الشعور الروحي “المبهم” مع ما يمكن أن تضيفه المخيلة ويصطنع داخلها من صور يحتفي بها الوجدان ويبرزها في صورة عشق. فهذا الشعور الغامض والمشابه في أثره لسريان الحياة في الأشجار وتبرعم الزهور عند قدوم الربيع في مفهوم الشاعرة آنا دونواي هو نفسه لكن بمعنى مختلف لدى الشاعرة السعودية هدى المبارك، وإن كان بفزع الشابة المراهقة عديمة التجربة والتي تسارع إلى والدتها لمساعدتها في أزمتها لفهم طبيعته:
«أماه / حلَّ َ بي ما حَلَّ بِامْرَأةِ العزيز / أأقطعُ يديَّ؟! / هائمة في المدينةُ وليرني الكفيفُ، وليسمعني الأطرش؟!».
فما يتشابه في المعنى لكلا الشاعرتين أنهما قدمتاه باعتباره شعورًا واضح
السطوع للعين الداخلية للمحب وليس انطباعًا خارجها وعصي على الشرح كفكرة مجردة إلا لمن خبره من قبل. وها هي الشاعرة هدى المبارك تعتذر من ارتباكاتها في إيصال المعنى وأنه فوق مقدرة المحبين على البوح:
«لم أعرف الحب! / لا أعرفُ ما هو لِي / هواءٌ أملأ به رئتي، / صوتٌ مِن عصرٍ قديم.. / صوتٌ يجمع كل عشاقِ الأرض، / ويتحدث بدلًا عنكِ!».
هكذا إذن، فنحن لم نظفر بتفسير واضح للحب سواء عند الفلاسفة أو الشعراء وجميعهم يحومون حول الحمى ولا يلجونه. أحاديث عن ظاهرة الحب وأثره ليس إلا، وحتى عندما نأخذ بنصيحة الباحثتين في فلسفة الحب، ماري لومونييه وأود لا نسولان، بقولهما «إن معنى الحب يمكن إصابته لدى شعراء الأغاني الشعبية أكثر منه لدى الفلاسفة والمثقفين»، فلن نصل إلى أبعد مما قالته الشاعرتين؛ آنا دونُواي وهدى المبارك. بل قد يزداد معنى الحب انغلاقًا وغموضًا لدى بعض الشعراء الشعبيين، مثل النص التالي لحسين المحضار: «سر حبي فيك غامض سر حبي ما انكشف / إيش خلاني أعشق فيك والعشقة تلف/ إيش أوقعني في شباكك وأنا عيني تشـوف / لا تعذبني وإلا سرت وتركت المكلا لك/ إذا ما فيك معروف».
في النهاية وبالرغم من جميع الأقوال عن الحب، يبقى أنه ينطبع بظاهرة غريبة؛ وذلك أن شكوى من يعانيه وألمه، لا نستطيع أن نتلقاها إلا ونحن في حالة جذل وابتسامة بالرغم من تعاطفنا الشعوري والوجداني مع ألمه القاتل ومعاناته الشديدة، وهو بخلاف مواقفنا الإنسانية والعاطفية لتجاه مصائب الآخرين! فهل هذا الشعور ناتج عن غواية الشعر عندما حول الشعراء تلك المعاناة إلى أغنية مموسقة تطرب لها الآذان كل حين؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى