أقلام

ألم الفقد

سلمى ياسين بوخمسين

كنت أتأمل المغادرين والغادين، أتفرس الوجوه. الكل ترتسم عليه علامات الحزن والأسى، فهذا المكان لا يرتاده إلا من فقد حبيباً. وفي هذا العام وسيلة الرحيل دخلت كل بيت، فكورونا اصطحب معه الألم والحزن، فهذا محدودب الظهر لفقد أخيه، وذلك مكسور العين لغياب القلب الحنون، وتلك تلملم أطرافها ويتحلق حولها أبناؤها لاستبدال خيمتهم بخيمة أقل سُمكاً وأكثر رقة بفقد عائلهم. وأشدهم ألماً هذه الأم الثاكلة بفقد وليدها التي شاء الله بأن يزف لعروس لا تخالفه أمراً ولا تعكر له صفواً، صحيفته بيضاء مؤطرة بصيام وقيام وإيمان عميق، ومزينة ببر والديه!
أترقب شهقاتها، وأشعر بغصتها تكاد تخنقها. فتلتحف معه بالتراب فقد تجرّعت أشد الفقد إيلاماً.
من العجائب عام 2020 أن أصبح زوار المقابر أكثر من زوار البيوت، فالفقد زاد، وكورونا لم يحسب لاحد حساب! فمن حانت ساعته يرحل بعجل، ففيه رسالة تذكير للبشر بأن الموت حق فليكن الجميع على أهبة الاستعداد.
حينما أفكر فيمن أزور أراهم يقطنون بيتاً واحداً ويسكنون غرفاً تدعى القبور. فالغني والفقير والصغير والكبير والمرأة والرجل والسعيد والتعيس والمؤمن والعاصي جميعهم في نظر الأحياء يتشاركون التراب، ولكن ما يعيشونه في واقعهم الجديد يختلف كل حسب مكانته عند الله.
فالموت رحلة في عالم الغيب لا يعلم من يقوم بها كيف سيكون مقره وما سيلاقيه في سفره، يحدده ما يحمل معه، فإن كان متاعه إيمان ونية صادقة مع الله ومثقلة بالخير والبر وطاعة لرب العالمين، وهجران لوسوسة الشيطان فليبشر بسفر سعيد وراحة مما لاقاه في دار الفناء. أما إذا كانت حقائبه ملئى بالشرور والآثام فليرتجي رحمة الله.
أخذت أصابعي تمسد القبر وكأنها تتلمس الجسد المسجى تحت التراب الذي طالما قمت بتدليكه لأزيل الآلام عنه. أخذت أتمتم ببعض آيات الله لتصل إليها فتزيد قبرها نوراً، وتخفف عنها غربتها. وأهمس لها: هل التقيتِ بمن سبقك بالرحيل ومن لحق بك؟ أم مايزالون يقطعون الطريق؟ ألم يتخلصوا بعد من وعثاء السفر؟

حينما هممت بالمغادرة أحسست بألم شديد يعتصر قلبي، وجالت بخاطري ذكرى قديمة حينما كنت صبية، كلما سمعت بموت أحد أتساءل: يا ترى كيف يتصرف أهل الفقيد؟ فكان الجواب حينما تجرعت مرارة يتم الأب، فهو انكسار وضعف لم أعهده من قبل. وأكثر ألم عشته قسوة بفقد القلب الحنون، فأصبح ألم الفقد هو المرافق لي، وتوالت السنوات وزاد فقد الأحبة، وها هو الألم يتجدد بفقدك يا خالتي الحبيبة! فطالما نتنفس هواء الأرض ونعيش بين الأحياء سنفقد ونفقد ولن تختم الأحزان إلا حين نصبح من المفقودين.

وهناك فقد أشد مرارة وهو فراق الأحياء! فكم من أب أذاق أبناءه مرارة اليتم بانشغاله بتوافه الحياة. وكم من زوجة ترملت وزوجها يتنقل بين الأصحاب والأسفار! وكم أم أهملت أبناءها وتركتهم في حيرة لمن يلجؤون؟ وكم والدين ثكلا بعقوق أبنائهم.
فمن رحل بالموت فإن رحيله دون اختياره، أما من يعيش جسداً دون روح فهذا استعجل الرحيل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى