أقلام

النِعم

أمير الصالح

الكل منا يبحث عن طرق السعادة ليعيشها فيما تبقى من زمن رحلة حياته. الجميع تقريباً على يقين بأننا لا نستطيع تغيير كل ما يدور حولنا من أحوال وظروف وأحداث، إلا أننا نستطيع أن نستجلي معالم طرق السعادة ونسلكها بالقدر المتاح من الموارد لكل منا، وننتقي التعابير الأنسب لنعيش حياة أفضل. الباحثة الأنجلو سكسونية Elizabeth Dunn، تطرح في كتابها Happy Money، عدة مقاربات تجريبية لتحقيق السعادة، وتسرد في فصول الكتاب بعض طرق صرف المال لإحداث سعادة أكثر spend happier. وبعض طرق تحسس النعم من حولنا. الكل يتعلم كيف يجلب المال، ويوفر المال، وكيف يستثمر المال! إلا أن القليل يتعلم فنون وطرق صرف المال بسعادة. وفي فصول أخرى من الكتاب تعقد الكاتبة مقارنات إحصائية بين السعادة المتحققة من الهدايا المالية المادية، والسعادة المتحققة من خوض التجارب الملموسة أو المحدثة للتغيير في حياة المحيطين بذات الشخص الباحث عن السعادة. وأوردت الكاتبة مفهوم فقدان الإحساس بالنعم لدوام تدفقها على ذات الشخص الفاقد لقيمتها أو غير المستشعر بها بسبب الغفلة منه أو لهثاً للمزيد من الترف أو انغماسه في المقارنة السلبية بين مالدى الآخرين وما لديه هو.
وتطرح الكاتبة نظرية treadmill في تفسير هذا المفهوم من اللهث خلف المزيد من الماديات والاستهلاك بتشبيه الإنسان اللاهث خلف السعادة وهو يمتطي واقفاً حزاماً متحركاً دون بلوغ مراده من السعادة. وملخص النظرية التي ساقتها السيدة إليزابيث هو أن الشخص الذي يراوح محله في ممارسة الجري على حزام متحرك ثابت المكان هو مواز لحالة ذاك الشخص الذي كلما اقتضم وجبة سعادة مادية أو معنوية دونما الاستشعار بالنعم، فإنه لايراوح محله في إضفاء أجواء السعادة في نفسه ومن هم حوله لانعدام روح القناعة لديه، واختفاء الاستشعار بالنعم عنده.
إن خاصية الاستشعار بالنعم في حد ذاتها هي نعمة وخصلة حميدة يجب زرعها في النفوس منذ المهد. نسمع كثيراً عن مقولة (بدوام الشكر تدوم النعم) إلا أن الكثير من الناس لا يزرعها في نفسه سلوكاً و قناعة، وإنما طنطنة.

في عهد جائحة كورونا التي أنتجت حالة حرمان إجباري في أصقاع الأرض، لمن يملك المال ومن لا يملك المال، من أمور اعتاد عليها الجميع ولم يلتفت إلى الاستشعار بها أغلب الناس إلا بعد خوض تجارب الحرمان منها.
استشعر الناس نعمة اللقاء بالأهل والأصدقاء، واستشعر الكثير نعمة الذهاب لمقار أعمالهم وتجارتهم، والذهاب إلى دور العبادة، واستشعر الجميع أهمية التنزه وممارسة الرياضة في الهواء الطلق والسفر. واستشعر كل سكان المعمورة بنعمة الطيران والتنقل بين القارات للتعلم والتجارة والطبابة والاستجمام. حتى بعض الأطفال الذين كانوا يزهدون في حضور الأعراس ودور العبادة، أضحوا يشعرون بالخسارة الاجتماعية الكبيرة الناتجة عن الحجر الصحي وتباعد الناس.

في هذا العام الهجري الجديد، شعر بعض ممن كان يضرب بمعوله البناء الاجتماعي سلبا،ً أو ممن هم غير ملتفتين سابقاً لأهمية التفاف الناس في المناسبات الدينية والعبادية بضمور طرحهم وجفاف قلم نقدهم السلبي، وانعقاد لسان غيبتهم لمن حولهم. لقد اختفت الكثير من الأنشطة والتعاملات واللقاءات والندوات والمجالس بسبب الجائحة، وجعل الكثير الكثير من الناس يتحسس الحسرة على فقدان نعمة التجارب ونعمة الوقت ونعمة الفرص ونعمة التواصل. حالياً، والكل يتطلع إلى فرج الله من هذه الجائحة ليستظل الجميع بشجرة تواد ورحمة وتواصل أفراد المجتمع من جديد وبثوب ممارسات أكثر وعياً واحترازاً ومدنية وصحة واقتصاد ونقد بناء وتأصيل لتكاتف والتواد والرحمة. ننشد وإياكم مكامن السعادة حتى في أحلك الظروف، وسنكون ممتنين لكل من يسعى لجعل أبناء مجتمعنا أكثر سعادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى