أقلام

لماذا قصيدة ”مواكب“ لامست شغاف قلوبنا ؟!

حيدر المعاتيق

في أَثَرِنا المهم الذي نتباها به عند قراءة القصائد الحسينية بالألحان المشجية، حين أشار الإمام الصادق عليه السلام لأبي هارون المكفوف بقراءة الأبيات بالرّقة كما عهدها عنده من أهل العراق، نتلمّس من هذا الأثر بداية إشعال جذوة حرارة العزاء وفق المناطقية، وإضفاء المعزين حسّهم المنتمي إلى المكان، والتنوّع المحمود لإعلاء صوت مصائب أهل البيت عليهم السلام وتحشيد الضمائر نحوهم والعواطف لهم.

التأثير الذي يحدثه الصوت ويجلبه من عمق التاريخ ليعيد خلقه في نفوس الجيل بشكل تلقائي أشبه بنفثة هواء للجمر المتوجّر تحت رماد الزمن، تعيد لنا ذلك الاعتزاز المرتبط جينيًّا بالأرض، ومحبّـتها المتبادلة مع من عاش معها، وسعت معه في رزقه لعياله، فكبر عظمهم ونما لحمهم منها، ذاكرةً قديمة للأجداد والآباء والأحداث التي واكبوها وتغلبوا على صعاب الحياة بترديدهم السنوي لتلك الكلمات والألحان.

أخذت هذه المساحة الصوتية من الألحان قالبًا حملت معه قيم السماحة والإحسان والرحمة والأمانة، فبلّغتها للأجيال.

هذا الاحتفاء بالماضي الذي أشعله الرادود الموفّق صالح المؤمن في عمله الأخير (مواكب) في صدور المؤمنين ممن استمع للعمل فأحس بقشعريرة تتملكه دون إرادة، ولم تتمكن ممانعته وتجلّده من نزول دمعه، حريٌّ بأن يُدرس.

منذ الوهلة الأولى للقصيدة المرئية، وحضور بيوت الطين الذي يستدعي صور ما يتخيل أو يتذكر أو يسمع من قصص الآباء وأحوالهم، إلى لحظة الوقوف عند الباب -الأيقونة التي يدور حولها العمل- وما تحمله من دلالات مثقلة بما جرى على أصحاب هذا الدار، منذ اليوم الأول لغياب عميدهم، ومآسيهم، وغربتهم، وظلاماتهم، ومصارعهم…

هذه اللحظة التي يقف عندها الذهن، ليجري عملية طي زماني، للحظة الآنية، مع اللحظة الأولى لتغيّر مسار التاريخ، فيقف حافة التقاء النتيجة بالسبب، فيعيد قراءة ما جرى من وقائع، ليس سردًا لها، بل أثر تراثي يتبع الأثر العزائي، والأثر العزائي يتبع حال أهل الدار، وهكذا، ندور مع الآثار كدائرة تنتقل الذاكرة من نقطة إلى نقطة وتعود إلى ذات النقطة كمشهد بانورامي عميق.
كان تطعيم الأبيات بوقفات من العزاء الموروث يؤدّي دور النفخ في نفوس المؤمنين، إذ أعطت كل هوية اعتزازها الخاص وانتماءها المميّز، وحضورها اللافت، المكوّن المختلف بالأساليب المتعددة، من عجم وعرب، وأحسائيين وبحارنه وقطيفيين وعراقيين، كل أسلوب خلق المزاج الخاص الذي بدوره ربطهم بالقضية.

أخذت لغة الكلمة فيها أثرًا عظيمًا في النفوس، إذ أعادت خلق اللغة التي تعلو اللغة اليومية المحكية، بمساحة جغرافية أوسع للغة بيضاء يتعاطاها سكان المنطقة من جنوب العراق شمالًا إلى أطراف عمان جنوبًا ومن أطراف الأحساء غربًا إلى سواحل البحرين شرقًا، لغة تعيد ذاكرة التبادل التجاري المصحوب بالتبادل العزائي من خطيب وناعي ورادود، وتنقّل للصور الشعرية بينها، وأثرها على بواطن النفس ومواقف الحياة، دون أن يتكلّف الشاعر باستعارة معجم أحد الشعراء من المنطقة قبله كملا علي بن فايز وملا عطيه الجمري، فتوفّق في انتقاء الكلمة التي تثقل ابن العشيرة بالغيرة، وابن البحر بالهموم، وابن الريف بالبكاء، وأكملت المشهد لهجة المؤدين للأبيات-خاصة الأطفال-، بغبشها المختلط للهجات بين سكان هذه المناطق، فقدمتها بنكهة استذوقها كل من سكن هذه البسيطة.

وهذا ما جعل (مواكب) تلامس شغاف القلب بحسّها الذي نستشعر فيه تاريخنا للعزاء ونسمع فيه صوتنا وصوت آبائنا في القصيدة.

وإذ يعطي هذا العمل وما أحدثه من تفاعل، الإشارة إلى الاهتمام أكثر بالتعبير عن هويتنا الخاصة وموروثنا المنفرد الذي وصل إلى نقاط بعيدة في نفوسنا، لا يستطيع أي لون آخر أن يجاريه في ماوصل إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى