أقلام

حيث فقدتْ روحَها

زهراء موسى

نحن أجرام فلكيّة، تتحرّك حاملة مداراتها وأقمارها، أحيانا تشتبك مداراتنا فتقع بيننا حوادث التصادم، وأحيانا تتقاطع بانتظام فتعبر أقمارنا بأمان. كلّ إنسان كون معزول بمفرده. هذا ما جال بخاطري وأنا أتأمّل المعزّيات في مجلس فاتحة والد (دلال)، التي تبدو كغبار كونيّ (سديم) كما تسمّي نفسها في المنتدى الأدبيّ على الشبكة.

كانت أوّل مرّة أراها، لكنّي رسمتُ لها صورة في مخيّلتي من وحي قصائدها: الحسناء المزهوّة محطّمة القلوب! وكانت جميلة بالفعل، لكن ليس كما تخيّلتُ، جميلة لكن كزهرة صحروايّة لا تدري أنها ليست مجرّد عشبة. وعلى تقاسيم وجهها غلالة مرخاة، ليست من حزن بل من حياد. وإذا تلفّتتْ أو أطرقتْ أو قامت تبدو كمن أضاع شيئا.

في أحاديثنا الهاتفيّة كانت تضيع كثيرا في دروب الكلام، وتكرّر: أين وصلنا؟ ماذا كنتُ أقول؟
في النهار كنّا نتحّدث هاتفيّا، وفي الليل على المسنجر، بلا مبالاة باعتراض زوجها وانتقادات أمّه.
في إحدى مكالماتنا قالت: سأعترف لكِ بشيء. أخافتني نبرة الخواء في صوتها، وبعد وجوم قالت: أنا قتلتُ قطّتي! وسكتتْ وسكتُّ، ثمّ استدركتْ: لم أفعل ذلك عمدا… كان ذلك منذ زمن طويل.
لم أسألها عن التفاصيل أو أحثّها على قول المزيد.

هل تكذب دلال؟ هل تعاني من نسيان مرَضيّ؟ في محادثة على المسنجر كتبتْ لي: أحبّ البلابل كثيرا، لكنّي لم أربّ أيّ بلبل منذ مات بلبلي، قتلتُه خطأ.. أخبرتُك بذلك من قبل، صحيح؟
لم أعلّق، وأدرتُ الحديث إلى جهة أخرى.

في غرفة الانتظار بالمستشفى دخلتْ أمّ زوجها، سلّمتْ وجلستْ على المقعد بجواري، لم تعرفني ولم أعرّفها بنفسي. بدأتْ تتحدّث عن آلام المفاصل، المسكّنات، العمليّة الجراحيّة التي تتردّد في الإقدام عليها. تضجّرتْ من طول الانتظار، وكانت قلقة على قِدْر الهريس الذي تركتْه على النار. قالت: سيحترق الغداء وزوجة ابني نائمة! تصحو ظهرا وتبقى في السرير تقرأ! وفي الليل تسهر لتثرثر مع صديقتها، وتترك ابني لينام وحده.
ضحكتُ في سرّي على طرافة التناقض بين شخصيّتي كصديقة شرّيرة في قصّة الخالة، وبين صورتي في عينيها الآن كبنت طيّبة، أحبّتْها وكافأتَها للتوّ بعلكة دسّتها في يدها وأغلقتْ عليها قبضتها مثل ورقة نقديّة من فئة كبيرة. وقالت: تبدين مختلفة عن بنات هذه الأيّام. هل تستيقظين مبكّرة وتطبخين الغداء لزوجك؟ أجبتُها: أطبخ ليلا بعد أن ينام الصغير.
زفرتْ وقالت: زوجة ابني لم تحبل حتّى الآن، لله الحكمة.. من يدري، لعلّها لو كان لها طفل لنسيتْ أن ترضعه! أو ضيّعتْه كما تضيّع مفاتيحها ومحفظتها، أو ربّما تقتله خطأ كما فعلتْ بأختها الصغيرة.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى