أقلام

الأسئلة العميقة الهادفة والأسئلة الغثيثة المملة

أمير الصالح

ردحٍا من الزمن كنت في محاورة مع ذاتي إثر تسجيل ملاحظات سلوكية عن بعض الأفراد من المحيط الاجتماعي ذاته فيما يخص ثقافة وفنون طرح الاسئلة. وكنت أتأمل: هل الأسئلة التي يطرحها البعض هي أسئلة حقيقية، أم تأكيدية، أو وسواسية، أو فضولية، أو تمحيصية، أو تحقيقية، أو كسر للجليد، أو تعكس روح التردد عند السائل، أو ة بحث السائل عن شماعة لتعليق مسؤولية النتائج لما بعد السؤال على من يجيبون عن تساؤله أو..أو.

أؤمن بان ” السؤال الفطن هو مفتاح المعرفة “. ولكن ليس كل سؤال. هو سؤال عميق وواضح ومفتاح للمعرفة. وإن كنت شخصيًّا لا أحمل أي تردد أو خجل من توجيه السؤال للآخرين، إلا إنني لا أميل إلى طرح أسئلة إلا بعد استنفاذ قراءات، وجوجلة خرائط، وبحث عدة مواقع، وقراءة كتب ومصادر في الموضوع ذاته. كل ذلك لتفادي طرح أسئلة قد تكون غثيثة أو كثيرة على مسامع المستقبل لها من جهة، وتوظيف المهارات التعليمية التي احتزتها من جهة أخرى. وإن اضطررت للسؤال فإني أبلور أسئلة محرزة وأنقحها بعد بذل الجهود وقلة المصادر، وعدم الوصول لآجوبة شافية، وأبحث عن الشخص المناسب للإجابة عليها. ولا أزال أتذكر وأعمل بمقولة والدي- حفظه الله- التي قالها لي قبل حوالي أربعين عام، أي قبل ولادة عصر الإنترنت وجوجل والهاتف المتنقل، وخرائط الجي بي إس. ومفاد مقولته : ” يا الله الغنى عن السؤال ولو عن الطريق “. أي: يارب أسألك تفادي طرح الاستفسار على مسامع الآخرين حتى لو كان طلبًا للارشاد وتحديد الأماكن. وبالفعل وجدت فوائد جمة لتفعيل تلكم المقولة (النصيحة) ، ولا سيما في السفر، وفي المجالس والديوانيات. ومن تلكم الفوائد عدم السؤال عن الأماكن يعني فيما يعني تفادي سهام النشالين وصائدي السياح في بلاد الغربة ومواطن السياحة. ومفهوم الفكرة لنصيحة والدي ذاتها، قرأتها قبل عقدين من الزمن في كتاب مختص في السفر والسياحة ( Lonely Planet ) عند تحضيري للسفر إلى دولة المكسيك، وتنبيه على تجنب سؤال الأشخاص في الشارع عن الأماكن أو أي شي آخر. والاستعانه فقط بموظفي الفنادق أو الدليل السياحي للوصول للمعالم المراد زيارتها.

شخصيًّا أرى أن كثرة الأسئلة بشكل مفرط من قبل أي شخص تنم عن عدة أمور. ومن تلك الأمور:
ضبابية المعلومات، أو الحرص المفرط، أو وجود حالة شبه عدم ثقة، أو الابتلاء بوسواس قهري لدى السائل، أو ضعف قراءة منه، أو عدم ثقة بما يقرأ الشخص، أو الاعتماد على الاخرين بشكل كامل، أو سوء الاختيار للمصادر عند القراءة والبحث عن معلومة معينة، أو هوس إلقاء السؤال، أو الخوف الشديد من تفويت استدراك الوجهة السليمة أو وقوع تجارب سابقة سيئة. وهناك أسباب أخرى قد يطول ذكرها، ولذا سنتجاوزها في هذا المقال.

بشكل عام، نلاحظ في المجالس والديوانيات والتجمعات تضجر البعض من صاحب الأسئلة الكثيرة، ولا سيما التي تصل إلى درجة الإفراط، وكما قال أحد المواطنين عبر بثه لتسجيل في تطبيق التك توك للتواصل الاجتماعي: ” كثرة الأسئلة تقتل المتعة يا مسلم، فلا تقتل المتعة ” .

يوظف البعض التباسًا ما ورد في المرويات الدينية: (اسأل عن دينك حتى يُقال عنك مجنون. والأصل للنص المنسوب للنبي (ص) : ” ابحث عن دينك حتى يُقال عنك مجنون “، أو هكذا قرأت. فيعمم البعض ممن قرؤوا النص بكلمة ” اسأل” في تطبيق ذلك في كل شؤون حياتهم حتى في الممارسات والأعمال الروتينية اليومية !! والبعض الآخر عند الطلب منه بالكف عن الإفراط في الأسئلة للموضوع ذاته، يوظف الآية القرآنية 🙁 بلى ولكن ليطمئن قلبي ) بشكل عشوائي ومستنزف وغير معقول. والحقيقة القرآنية الدامغة أن أقوام سابقون ذمهم كتاب الله المجيد، لأن أسئلتهم الكثيرة لنبيهم هي أقرب إلى الاستخفاف بنبيهم منها إلى البحث عن اليقين وإصابة الحقيقة، (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا … سورة البقرة، آية 70، صفحة 11)
في عالم اليوم، في المؤتمرات الصحفية المهمة التي تُعقد مع الوزراء ورؤساء الوزراء في معظم أنحاء العالم المتقدم، يُمنح بعض الصحافين حق طرح سؤال واحد أو اثنين بحد أقصى، حتى في حالات الحرب أو الهزات الاقتصادية الكبرى. ومن خلال السؤال المطروح تستشف كمستمع عمق الموضوع وقوة وعي الصحافي السائل، وتستقرئ إلمام الوزير ومدى أهليته وكفاءته من خلال الإجابة الشافية الوافية منه للسؤال. إذن: جودة السؤال إن دعت الضرورة لطرحه هي انعكاس لجودة البحث والقراءة والتمحيص للسائل. وهنا أود أن أشجع نفسي والآخرين بإعادة تنشيط دلالات ومفاهيم الآية القرآنية: (اقرأ.. ) الآية. فمن المفترض أن نقرأ، و نقرأ كثيرًا وإن نفهم ما نقرأ وأن نوظف ما نفهم مما قرأناه، وأن نعمل بما نستطيع أن نوظف مما قرأناه للنجز، وإن أنجزنا تقدمنا خطوات للإمام. قيل على لسان أحد الفلاسفة السابقين: وأربع أشياء تيبس الوجه وتذهب ماءه وبهجته: الكذب، والوقاحة، وكثرة السؤال من دون علم، وكثر الفجور. كثرة السؤال بشكل ملفت من طرف:
١- الصغار يعد اكتشافًا للمحيط.
٢- وللشباب اكتساب المعرفة.
٣- وللكبار انكشاف.

وهناك قول يُنسب للامام علي (عليه السلام): (تَكَلّمُوا تُعْرَفُوا، فَإنّ المَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ). فمن يقرأ كثيرًا يتكلم بالحد المعقول. ومن لا يقرأ، سيتكلم كثيرًا، وحتمًا سينكشف كل ما هو مخبوء تحت طي لسانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى