أقلام

الإمام الكاظم دروس وعبر

السيد فاضل آل درويش

في زمن يعج بكثرة المشاكل وتشابكها والهواجس مما يخبيء المستقبل المجهول، يواجه الإنسان عاملًا قاتلًا وساحقًا لقواه ألا وهو القلق (المسمى بمرض العصر)، والذي يسلبه صفاء الذهن والراحة النفسية والإحساس بالأوقات الجميلة، كما أنه يؤثر سلبًا على علاقاته بالآخرين حيث استفزاز مشاعره وشحنه نفسيًا يمنع التواصل الإيجابي والأريحي، والبحث عن ذلك الإكسير المعافي من التوتر يعد ضالة منشودة في كل زاوية ومكان، ولن تجد علاجًا مبلسمًا لتلك الآلام كالعلاقة بالله سبحانه وتعالى وما تهبه الإنسان من نفحات تهديء نفسه وتبعد عنه شبح القلق، فالدعاء والمناجاة سياحة فكرية مع تلك المعاني الجميلة والمضامين العالية يتأمل المرء فيها ويتأمل ما ذكرته من صفات الجمال والجلال الحسنى فتقوى عقيدته التوحيدية، كما أنه عندما يقف بين يدي الله تعالى في الصلاة يستشعر العظمة الإلهية ومدى ضعفه وافتقاره للرحمة والمغفرة الإلهية، والجلوس بين يدي مائدة القرآن الكريم يهبه الدروس الفكرية والأخلاقية الصانعة لشخصيته القوية، فما أحوجنا لقبس نور وهدى يبين لنا المسالك والسبل الخاطئة وأفكار الضلالة وينبهنا من حفر المكر الشيطاني، وهكذا بالنسبة لبقية العبادات في مفاهيمها وعطائها تكسب الإنسان الفيوضات النورانية.
والإمام الكاظم (ع) له ملاصقة وملازمة لمحراب العبادة والطاعة حتى وصل إلى مبتغاه ومسألته من الله تعالى بالتفرغ للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى، في أجواء روحية تختفي منها معالم حب الدنيا الزائلة والشغف بزينتها، ويبقى منها ما له قيمة ومكانة وهي تلك الأوقات التي يقضيها في محراب العبادة، وكانت له من الألقاب ما يرتبط ببعض جوانب عبادته كالعبد الصالح وحليف السجدة الطويلة، أما لقب العبد الصالح فهو يرتبط بنهجه وتعامله المذكر بسيرة الأنبياء والأولياء الصالحين ممن دأبهم طاعة الله تعالى وسيرهم التقرب منه، وقد شهد بذلك كل من رأى الحياة العبادية للإمام (ع) فلم يكن مستوحشًا من نورانية الصلاة والصوم وتلاوة القرآن الكريم بل كان بهم أنسه وطمأنينته، وكانت له سجدة طويلة بعد صلاة الفجر وتعقيباتها حتى تشرق الشمس شكرًا لله تعالى على عنايته وتدبيره الحكيم و العادل في كل شؤونه وأحواله (ع).
وقد اشتهر الإمام (ع) بلقب الكاظم أي الماسك لغضبه وانفعاله كردة فعل حسنة في مقابل ما يجابهه من إساءة وشماتة واستفزاز، فضرب النموذج الأمثل في ضبط النفس وهدوئها أمام الصعاب والظروف القاهرة، وما أحوجنا اليوم للتأسي به في كل صفاته وخصاله الحميدة وخاصة الحلم وكظم الغيظ، إذ يواجه المرء الكثير من عوامل الإغاظة وتأجيج المشاعر بسبب الاحتكاكات اليومية والنقاشات التي تتطور في بعض الأحيان إلى انفعال، والمنهج الأخلاقي ودروس الحياة التي يقدمها لنا الإمام (ع) هو تدريب النفس على التعامل الهاديء مهما كانت الظروف، ومع تكرار هذا التصرف منا تعتاد النفس على التصرفات الحكيمة وتتجنب الخطوات الانفعالية المتهورة، وصمام الأمان للعلاقات المستقرة والناجحة هو القدرة على امتلاك زمام أمور النفس فلا يصبح الإنسان أسير الاستفزازات، فيتعامل معها لسانه بإطلاق الكلمات المتفلتة والمسيئة فلا ينفع معها حينئذ الندم الشديد، والأمر – مواجهة الاستفزاز والإساءة – لا تتعدد فيه الخيارات فإما أن نطلق العنان لانفعالاتنا المكتومة فيصدر منها ما يوتر على علاقاتنا ويلحق بنا الخسائر الفادحة، وإما أن نقابل الإساءة بالتجاوز عنها طلبًا للتصالح مع ذواتنا وتحقيقًا للتعايش المستقر مع الآخرين مما يعزز علاقاتنا ومكانتنا الاجتماعية.
وكان الإمام (ع) الحصن الحصين والمرجعية للناس في الجانب الفقهي وتفسير كتاب الله تعالى وتقديم الكنوز الحكمية من كلماته المتضمنة للمفاهيم والقيم الأخلاقية، ولم يكن الإمام الكاظم (ع) بعيدًا عن حاجات الناس المالية بل كان يبلسم فقرهم بما اشتهر بصرر نقود موسى (ع)، حيث كان يضع في الصرة الواحدة ثلاثمائة وأربعمائة دينار ينفقها على الفقراء بما يساعدهم على توفير مستلزمات الحياة الكريمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى