هل الأحساء هي هجر التاريخية

طالب البقشي
يثار جدل من بعض الباحثين والمؤرخين حول كون الأحساء هي “هَجَر التاريخية “، ويتجدد هذا الطرح بين فترة وأخرى للتحقق من الموقع الدقيق لـ “هَجَر التاريخية “، وهي إحدى أشهر المدن في إقليم البحرين التاريخي ومدى تطابقها مع موقع الأحساء المعروفة اليوم. وفي ضوء هذا الاحتدام أصدر السلهام كتابًا بعنوان ” ساحل القرامطة ” وكتابًا بعنوان “إتحاف الأنام بـ«هجر» يوضح فيه تفاصيل حججه وأدلته التي تثبت بأن الأحساء المعاصرة ليست هي هجر التاريخية، مغايرًا في طرحه جل الباحثين والمورخين.
الا أن جمهور كبير من المؤرخين والباحثين يرون أن مدينة هَجَر التاريخية تقع في منطقة الأحساء الحالية، مستندين إلى عدة مصادر، منها المصادر الجغرافية والتاريخية والخصائص الطبيعية لمدينة هجر التاريخية. فقد أشار الجغرافيون القدماء ومنهم الهمداني (توفي 334هـ) في كتابه (صفة جزيرة العرب) بأن هَجَر مدينة رئيسة في البحرين، وذكر ياقوت الحموي (توفي 626هـ) في معجم البلدان قال “هَجَر: اسم بلدٍ بالبحرين، وهي أعظمُ قراها، وقاعدتها، وأهلُها أكثر من أهل جميع القرى، ولها نخيلٌ كثيرة. وهذا الوصف ينطبق على الأحساء المعروفة بكثرة النخيل والمياه، والمؤرخون الطبري وابن الأثير وغيرهم ذكروا هَجَر في سياقات الغزوات والفتوحات الإسلامية في شرق الجزيرة العربية، وغالبًا ما تُذكر باعتبارها مركزًا مهمًا إداريًا وتجاريًا في إقليم البحرين.
وفي الوصف الجغرافي لموقع هَجَر فإن ما ذكره الجغرافيون القدماء ينطبق على منطقة الأحساء بأنها تقع شرق الجزيرة، بين البحر والخليج، وتُذكر دائمًا كمركز في إقليم البحرين القديم وتشتهر بالواحات والنخيل والعيون، وهي من أبرز صفات الأحساء حتى اليوم وتقع في سهل خصب غني بالمياه الجوفية، مما يفسر وفرة النخيل والعيون الجارية، كما أن الدلائل الأثرية وكشف مواقع أثرية في الأحساء، مثل جواثى (الذي يقع شرق مدينة الهفوف) الذي ذكر في الأحاديث والسير، وكان أول مسجد أُقيمت فيه صلاة الجمعة بعد المسجد النبوي، والحفريات الحديثة في الأحساء كشفت عن آثار تعود إلى العصور الإسلامية المبكرة، ما يعزز فكرة أنها كانت مركزًا حضاريًا هامًا.
ويعد تطابق الخصائص الطبيعية مع خصائص طبيعة الأحساء المعاصرة من القرائن التي ترجح ما ذهب له المؤرخون والجغرافيون القدماء فقد ورد في أوصاف “هَجَر” أنها ذات مياه ونخيل، وهي أوصاف تنطبق تمامًا على واحة الأحساء، المعروفة بغناها العذب ومزارعها الكثيفة ويعتقد بعض المؤرخين أن اسم “هَجَر” تحوّل مع الوقت إلى اسم الإقليم “الأحساء”، وأن مدينة الهفوف الحديثة أنشئت قرب موقع هَجَر القديمة.
ومما يؤكد أن هجر التاريخية هي الأحساء المعاصرة بعض النقوش والمخطوطات المكتشفه والمصادر الإسلامية المبكرة التي تشير إلى هَجَر كمركز حضري في هذه المنطقة، مما يدعم ربطها بالأحساء وتعد النقوش المكتشفة في الأحساء دليلًا تاريخيًا على أن هجر التاريخية هي الأحساء نفسها. فقد عُثر على نقوش كلدانية في الأحساء، مما يشير إلى أن الكلدانيين سكنوا المنطقة قديمًا، وأن هجر كانت تقع في هذا الموقع تحديداً بالإضافة إلى ذلك، تشير النقوش إلى أن سوق هجر كان من الأسواق التاريخية التي تعود إلى نحو 1400 عام، وأن اسم هجر كان مرادفًا لاسم الأحساء في الجغرافيا القديمة، مما يؤكد على أن هجر هي الأحساء.
ومن القرائن التي يستند عليها في ترجيح تطابق موقع هجر التاريخية بالأحساء المعاصرة “التحول في التسمية ” فهناك الكثير من المرافق العمرانية التاريخية مع مرور الزمن شهد تحول في التسمية، وبدأ اسم “هَجَر” يتلاشى من الاستخدام الشائع، وحلّ مكانه اسم “الأحساء” في العصور المتأخرة، وهو يشير إلى المنطقة ككل، خصوصًا بعد توسع العمران سميت “هجر” إلى “الأحساء” وهذا يعكس تطور المنطقة وتغير مسمياتها عبر التاريخ، حيث كانت “هجر” في الأصل اسمًا لمنطقة واسعة، ثم أصبحت اسمًا لمدينة رئيسة، وأخيرًا أصبحت “الأحساء” اسمًا للمنطقة ككل لم يكن هذا التحول فجائيًا، بل كان تحولًا تدريجيًا على مر العصور، حيث تغيرت المسميات مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية وتطور المنطقة وهذه القرائن تدلل على أن الأحساء الحديثة هي امتداد لهجر التاريخية، وتشترك في نفس الموقع الجغرافي والتراث.
فالأحساء في العصور القديمة مرت بثلاث مراحل تاريخية، تقسم إلى الفترة التي كانت جزء من مدينة الجرهاء التي أسسها الكلدانيون، ثم منطقة هجر في بداية القرن الثالث الهجري (317هـ – 929م)، والتي كانت تعد جزءًا من إقليم البحرين، وأخيرًا الفترة التي سميت الأحساء باسمها الحالي حينما بنى أبو طاهر الجنابي القرمطي مدينة جديدة في موقع منطقة هجر المطلة على الخليج العربي، وبقيت على هذا المسمى حتى اليوم.
وفي البحوث التاريخية التي بختلف عليها الباحثون والمؤرخون فإن الارتكاز على التحقيق المنهجي والعلمي هو الفاصل في اعتماد المعارف والحقائق التاريخية بالاستناد على الدراسات الأثرية العلمية لموضع البحث، ولا يمكن للباحث القطع بصحة مايطرحه من استنتاجات تاريخية قد يداخلها انحياز معرفي مسبق وتفسير للقرائن التاريخية بطريقة تتناسب مع مشاعرالكاتب وإنما يتم الاعتماد على أدوات علمية ومنهجية متعددة في إثبات استنتاجات البحث التاريخي ومنها الاتكاء على علم التاريخ وعلم الجغرافيا وعلم الآثار والوثائق التاريخية وتحقيقات الباحثين والمؤرخين وبناء هذه الأدلة على التحقيقات التالي:
1- التحقيق الجغرافي التاريخي
المقارنة بين أوصاف الجغرافيين القدماء (مثل ياقوت الحموي، الإصطخري، ابن حوقل) وموقع الأحساء اليوم.
وتتبع الأسماء التاريخية وتغيراتها عبر العصور وتحديد المسافات بين المدن في المصادر القديمة ومقارنتها بمواقعها الفعلية.
2- التحقيق الأثري
دراسة الآثار والمواقع الأثرية في الأحساء (مثل قصر إبراهيم، جواثا) وعلاقتها بهجر وفحص النقوش والعملات والمعالم العمرانية في فترات التاريخ المتعاقبة.
3- التحقيق في الوثائق والمصادر
مراجعة الكتب والمصادر الإسلامية القديمة التي ذكرت هَجَر ودراسة سجلات الرحالة والجغرافيين والمؤرخين.
4- مقارنة علم الخرائط
تحليل الخرائط الإسلامية والعثمانية والأوروبية القديمة وتتبع مواقع هجر والأحساء في تلك الخرائط.
ولتحري المنهجية العلمية في تحديد موقع تاريخي مختلف عليه علميًا، يعتمد الباحث والمؤرخ على مجموعة من التقنيات والإستراتيجيات التي تشمل المسوحات الميدانية، وتحليل المواد الأثرية، واستخدام تقنيات التاريخ المختلفة ودراسة السجلات التاريخية والأدبية مما يقلل من التحيز في الآراء الشخصية لمعلومات البحث.