أقلام

حول مقولة: حبّ الحسين أجنّني!

السيد أمير العلي

لم أطّلع على بعض تفاصيل ما أثير في أيّام العشرة الأولى من شهر محرّم الحرام، من قضايا تاريخيّة ومنبريّة، سوى بعد انقضائها. ولعلّ هذا كان فرصة لقراءة المشهد بعيدًا عن ضوضاء خلافاته، وردوده المتبادلة.
أريد في هذا المقال القصير أن أعلّق على قضيّة “الجنون العابسي”، ولست أقصد بذلك الدفاع التامّ عن أحد الطرفين، بل ستكون في تعليقي موافقة لكلّ منهما، ومخالفة في آن واحد!
لقد كان في الإثارة المطروحة جانبان:
الأوّل تاريخي، يرتبط بثبوت نسبة هذه المقولة إلى عابس بن ابي شبيب الشاكري، كما ورد في بعض المصادر المتقدّمة، أو عابس بن شبيب، كما ورد في مصادر متقدّمة أخرى.
والثاني يرجع إلى تقييم توظيف هذه المقولة في الممارسات الإحيائيّة.
وسأتحدّث بداية عن الجانب الثاني؛ لأنّه سيساعدنا في التعاطي مع الجانب الأوّل.
إذا راجعنا سياقات استعمالات المؤمنين ومحبّي سيّد الشهداء لهذه المقولة، فإنّنا نجد أنّ هناك عدّة أشكال للتعاطي معها، بين من يعبّر بها عن تفانيه في نصرة الدين، والتضحية في سبيل الله، وبذل كلّ غالٍ في ذلك، وهذا ما نجده عند من تصدّى من المؤمنين ودافع عن الأوطان أو الحركات المتطرّفة أوّلًا، وبين من يتّخذ من هذه المقولة وسيلة يبيّن بها مدى حبّه الشديد لسيّد الشهداء عليه السلام، وفيض أحاسيسه الحسينيّة ثانيًا، ومن يستند أخيرًا إلى هذه المقولة في تبريره للمظاهر غير المألوفة، وغير المتعارفة عند عموم المؤمنين، في مراسم الإحياء الحسينيّ، ويصل من خلالها إلى اعتبار تلك الظواهر شعيرة من شعائر الله، يجب احترامها، وعدم الاعتراض عليها، مهما خرجت عن الحدود.
إذا جئنا إلى المطالعة التاريخية حاملين الفهومات الثلاثة السابقة، وتوظيفاتها لمقولة الجنون العابسيّ، وعرضناها على ما تذكره المصادر المتقدّمة من وقائع ملحمة عاشوراء العظيمة، سنلتفت إلى ملاحظتين، هما:
الأولى: عدم ورود هذا القول (حبّ الحسين أجنّني) على لسان البطل الكبير والمجاهد المتفاني عابس الشاكري، ويستطيع من يريد التأكّد مراجعة الموسوعات المهتمّة بنقل نصوص الكتب التاريخية في أحداث كربلاء، كما توجد مقالات لبعض الباحثن أكّدت ذلك، ويستطيع من يريد البحث بنفسه الاستعانة ببرامج البحث، أو بذل وقته في ملاحقة هذه المقولة في المقاتل المتقدّمة، والقريبة من أيّامنا، ليقف على توقيت دخولها في كتب السيرة الحسينيّة.
الثانية: لكنّ ما ورد في المقاتل القديمة يعبّر بوضوح عن أنّ عابس قدّم أعلى أمثلة البطولة، وأسمى درجات التضحية في نصرة أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام، ممّا لا تألفه غير النفوس الأبيّة الواصلة في سلالم الفداء إلى أقصى درجاتها، وهذا ما لا تدركه العقول غير المنفتحة على ما وراء المادّة، ولا تستوعبه الأرواح الخاوية من المعارف الإلهيّة، والبصيرة المحمّدية.
كتب الشيخ الريشهري في كتابه القيّم “الصحيح من مقتل سيّد الشهداء وأصحابه عليهم السلام”، عند حديثه عن عابس الشاكري ومقتله، وقد أشار إلى مصادر ما نقله من احداث وكلمات؛ فلتراجع:

(وكان له حضور مؤثّر في المقاطع المختلفة من النهضة الحسينيّة، ويدلّ كلامه عند الوداع مع الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، على ذروة إيمانه وإيثاره وحبّه لأهل بيت الرسالة، حيث خاطب الإمام قائلاً: يا أبا عَبدِ اللَّه، وَاللَّهِ ما أقدِرُ عَلى‌ أن أدفَعَ عَنكَ القَتلَ وَالضَّيمَ بِشَي‌ءٍ أعَزَّ عَلَيَّ مِن نَفسي، فَعَلَيكَ السَّلامُ!
وحينما عجز عسكر العدوّ عن مواجهته، أمر عمر بن سعد أن يرشقوه بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك، استبشر وألقى درعه ومغفره، واستقبل رشق الحجارة دون درعٍ ومغفر! يقول الراوي في تبيين شجاعته بعد أن استشهد عابس: رَأَيتُ رَأسَهُ في أيدي رِجالٍ ذَوي عُدَّةٍ، هذا يَقولُ: أنَا قَتَلتُهُ، وهذا يَقولُ: أنَا قَتَلتُهُ، فَأَتَوا عُمَرَ بنَ سَعدٍ فَقالَ: لا تَختَصِموا، هذا لَم يَقتُلهُ سِنانٌ واحِدٌ. وجاء في الزيارة الرجبيّة وزيارة الناحية المقدّسة: السَّلامُ عَلى‌ عابِسِ بنِ شَبيبٍ الشّاكِرِيِّ).

وبعد كلّ هذا فيمكننا أن نقول بأنّ هذه المقولة بنّصها المتداول لم نجدها في كتب التاريخ والمقاتل المتقدّمة، لكنّنا نجد فيها -سيّما إذا تعاطينا معها تعاطيًا مجازيًا ولا أظنّ أنّ أطراف الخلاف يختلفون في ذلك- ما يلتقي مع المعنيين الأوّل (أقصى حودو التضحية)، والثاني (أشدّ درجات المحبّة)، لكنّنا لا نجد ما يقترب من المعنى الثالث، إذا كان فيه خروج عن معايير الشريعة، والعقل المؤمن.
ولست أرى -ختامًا- في الكلام المستشكَل عليه ما يشير إلى رفض المعنيين الأوّل والثاني، كما لا أتوقّع أن يقبل جميع المعترضين المعنى الثالث، لكنّ شيئًا من عدم الوضوح اكتنف المشهد، وأخذه إلى ما لم نكن نحبّ أن نراه في مجتمعنا الإيماني العزيز.
وييقى أنّ من المهمّ عدم الخلط بين صحّة المعنى الإيحائي لهذه المقولة، وبين تسويغ نسبتها للشهيد عابس الشاكري، ولا رفض عدم تقبّل استعمالها، لأسباب ذوقيّة، أو اجتماعية، أو غيرهما.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى