بشائر الوطن

التجربة الإنسانية والحفر المعرفي

محمد محفوظ

سيبقى الحفر المعرفي العميق ، في التجارب الفكرية والثقافية لمختلف الشخصيات والفعاليات ، من الضرورات الدائمة ، التي لا يمكن الاستغناء عنها .. وذلك لأن الدراسة العميقة في هذه التجارب ، تقود إلى فتح آفاق معرفية جديدة للاجتماع الإسلامي المعاصر .. فهي تجارب تغني الراهن بكل آفاقه ، وتعيد تنظيم الأولويات بما يتناغم وطبيعة الأهداف والتحديات ..

و عملية الحفر المعرفي في التجارب الإنسانية المختلفة تتطلب الاهتمام بالعناصر التالية :

1ـ قراءة التجارب الإنسانية بعمق و كذلك سير و تجارب الشخصيات العلمية و الفكرية و السياسية , لأنها تتضمن خلاصة تجارب و خبرات هذه الشخصيات , كما تحتوي أهم الدروس و العبر التي هي بمثابة عصارة التجربة أو خلاصة الخبرة ..

و قراءة هذه التجارب ليس من أجل التسلية وتمضية الوقت أو معرفة الجوانب الشخصية البحتة لهذه الشخصية أو تلك , و إنما من أجل استيعاب تجربتهم و اكتشاف عناصر القوة و الضعف فيها ..

فالإنسان مهما أوتي من عمر طويل , إلا إنه لا يستطيع أن يعيش كل الخبرات , و قراءة هذه التجارب و استيعاب هذه الخبرات الإنسانية , هو الذي يساهم بشكل أساسي في عدم الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها السابقون , مما يعزز فرص النجاح و يقلل إمكانية الإخفاق و الفشل .

2ـ اللقاء المباشر بالشخصيات و الفعاليات الإنسانية التي تمتلك تجارب و خبرات متعددة  للاستفادة من تجاربهم و خبراتهم . لأن غياب هذه الشخصيات دون الاستفادة من خبراتهم و تجاربهم , يعد خسارة كبرى ليس لنا فقط , و إنما للإنسانية جمعاء .

و دائما المجتمعات الحية هي التي تستفيد من تجارب و خبرات شخصياتها و فعالياتها . أما المجتمعات الجامدة و الميتة فإنها تقبر شخصياتها و تغيب خبراتهم و تجاربهم . لذلك هي مجتمعات دائما تلهث وراء راهنها دون بوصلة , و تبحث عن مجدها و لكنها لا تتوسل الطريق الصحيح لذلك .

و كأن المجد يباع و يشترى . فمجد المجتمعات مرهون بإرادة أبناءها , فهم الذين يقررون بوعيهم و إرادتهم و علمهم , أنهم قادرون على القبض على أسباب مجدهم و عوامل قوتهم . فالمجتمعات التي تحلم و تتطلع و تطمح , و لكن لا تسند هذا الحلم و التطلع بإرادة  صلبة و كفاح مستديم فإنها لن تصل إلى شيء . فالأحلام بوحدها لا تحقق إنجازا ولا تبني عمرانا , كما أن التطلع المجرد لا يغير من معادلات الحياة و لا يصنع من الضعف قوة . و عليه فإن المطلوب و نحن نقرأ و ندرس تجارب و فعالية التجارب الإنسانية المتعددة إنجاز معادلة التقدم في واقعنا الاجتماعي . و هذه المعادلة التي تتشكل من رؤية عميقة وواضحة و كفاح إنساني مستديم و متواصل و بناء حقائق التقدم في دوائر الحياة المختلفة .

و الحفر المعرفي في التجارب و الخبرات الإنسانية المختلفة , يستهدف تظهير عناصر هذه المعادلة , حتى لا نقع في أخطاء من سبقنا سواء كأفراد أو مجتمعات كما ينظم لنا خريطة الأولويات , حتى لا نضيع جهودنا في أعمال و أنشطة ليست ذات أولوية .

فقراءة تجارب الآخرين و الاستفادة من خبراتهم , هي بمثابة تكثيف للزمن و إنضاج عميق لخيارات الأفراد و المجتمعات .

3ـ ضرورة العمل على بناء رؤية و نحن نقرأ تجارب الآخرين و استيعاب خبراتهم , لأن هذه الرؤية هي التي تمنحنا القدرة النفسية و العقلية للاستفادة من تجارب الآخرين و استيعاب خبراتهم المتعددة . فقراءة التجارب و الاستفادة منها , لن يتم بشكل عميق مع غياب رؤية لدى القارئ أو المتابع لشؤون و أطوار تجارب الآخرين سواء كانت هذه التجارب سلوكية أو علمية , تاريخية أو سياسية .  في كل الأحوال من الضروري بناء رؤية تشكل منظار أولي يؤهلنا للنظر بعمق لتجارب الآخرين و خبراتهم . فالآخرين ليسوا نمطا محددا و ثابتا لا يتغير فهم كبقية البشر يعيشون أطوارا مختلفة و يخضعون لظروف زمانهم و مكانهم و ليس كل تصرفاتهم خاضعة لمعايير عقلية و علمية صرفة . و بالتالي فإننا نقرأ تجارب الآخرين وهم في لحظات قوتهم و لحظات ضعفهم , نقرأ أعمالهم المبررة و غير المبررة . فنحن أمام رحلة فكرية ـ إنسانية ذات أطوار متعددة و متنوعة .

و هذا بطبيعة الحال ينفعنا في إدراك حقيقة الوجود الإنساني و فهم طبائع الحياة الإنسانية . و نحن نقرأ و نتفاعل مع هذه الرحلات و التجارب الفكرية و السياسية و العلمية بمقدار ما نستفيد من نقاط القوة لديهم , ندرك أيضا ثغرات تجاربهم و نقاط ضعفهم الإنسانية و نعمل على تجاوزها في حياتنا العامة و الخاصة .

4ـ إن الحفر المعرفي هو القادر وحده على خلق حالة المقارنة ضمن الظروف و الأوضاع المتشابهة بين التجارب الإنسانية المختلفة . لأن قراءة التجارب ينبغي أن يتم ضمن ظروفها و أحوالها الذاتية و بعيدا عن إسقاطات القارئ أو رغباته الأيدلوجية أو الذاتية .

وذلك حتى يتم الاستفادة القصوى من هذه التجارب . ولا يمكن أن تنجز هذه المسألة بدون الحفر المعرفي الذي يتجه إلى أعماق التجربة و ميكانيزماتها الذاتية , لامتصاص عناصر تفوقها و قوتها وربط آليات عملها بزمانها و ظروفها الثقافية و الاجتماعية و السياسية .

فتجارب الشخصيات و الفعاليات المتعددة متنوعة و ثرية من مختلف الأبعاد , و قراءة هذه التجارب بشكل سطحي يضيع الكثير من العبر و الدروس و الآفاق ..

ولا خيار فعال إذا أردنا الاستفادة القصوى من تجارب الإنسانية في مختلف الجوانب إلا بتبني خيار الحفر المعرفي الذي يغوص في التجربة  و يدرك خصوصياتها ضمن زمانها و ظروفها , لتظهير أهم الدروس و العبر , حتى تستمر هذه التجارب حية في عقول الفعاليات الإنسانية المستمرة في الحياة و العطاء ..

و الحفر المعرفي يقتضي وجود عدة نظرية واضحة في التعامل مع هذه التجارب , و ذهنية منفتحة على آفاق هذه التجارب و إرادة إنسانية واعية تستهدف الاستفادة القصوى من كل مراحل و محطات هذه التجارب الإنسانية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى