أقلام

تسامي نفس الصائم في نظر أمير المؤمنين (ع)

السيد فاضل آل درويش

ورد عن أمير المؤمنين (ع): صوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر اٌلمَآثم وخلوّ القلب مِن جمیع أسباب اُلشرّ) (غرر الحکم ودرر الکلم، ج‌ ١ ص ٤١٦ ).

يعطينا أمير المؤمنين فهما شاملًا ومحددًا لمفهوم الصوم وتوضيح الغايات منه، فالصوم مسحة علاجية للنفس البشرية يخلصها من الآفات الأخلاقية ومصادر الشرور، والفهم القاصر للصوم بالمعنى الخاص الفقهي (صوم الأبدان) الذي يعني إسقاط التكليف الشرعي، من خلال الإمساك عن المفطرات في الوقت المحدد للصوم من بداية الفجر حتى أذان المغرب لا يمكن من خلاله تحصيل ملكة التقوى والجوارح متفلتة، وذلك أن وقوع الصوم موقع الصحة لا يعني تبلور أثره على النفس وتحصيل ملكة التقوى المبتغاة وتعالي النفس وتنزهها عن ملوثات الشهوات والأهواء، وبمعنى آخر فإن ارتكاب الذنوب غير المنصوص على مفطريتها كالغيبة والسرقة والسباب وخيانة الأمانة والكذب على الناس ونظرة الحرام ومعاكسة الفتيات وغيرها لا يؤثر في صحة الصوم فقهيًا، ولكنها في الحقيقة مزقت ثوب الصوم إربًا وتأتي بنتائج عكسية كارثية على الصائم، فمن ناحية الاحترام والتعظيم لشهر الله تعالى ورعايته لم يوفق هذا المذنب لذلك، وكما أن الحسنات مضاعفة في الموسم الزماني المعظم (شهر رمضان) فكذلك العقوبات مضاعفة، وذلك أن الظروف الإيمانية والحالة الروحية المنتشرة بين المؤمنين تشكل رادعًا بنسبة معينة للتوقف عن ارتكاب الحرام لا أقل في هذا الشهر الكريم، ولكن هذا العاصي انغمس في الآثام فلم تعد المذكرات بالتي تنفع في إيقاظه وإيقافه عن غيه مما يجعله عرضة للعقوبة الإلهية، كما أنه فوت على نفسه فرصة ثمينة حيث أن الصوم عامل مهم في مساعدة النفس على التخلص من ربقة الشهوات والتحرر من أغلال الدنوب، ولذا ورد أن هناك من أمسك عن الطعام والشراب كما أوصي به على المستوى الفقهي ولكنه خرج من مضمار الشهر الكريم خاسرًا وخالي الوفاض من تلك الجوائز السنية التي أعدت لمن لم يهتك حرمته، (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والظمأ).

أما صوم النفس فهو إمساك الجوارح عن معاقرة الآثام وتجنب المحرمات والرقابة عليها، وفي التوجيهات النبوية وما ورد عن أهل البيت (ع) ما يشير إلى آداب الصوم الأخلاقي، من حفظ اللسان عن قول الفحشاء والسوء وتنزيهه عن الكذب والغيبة، وحفظ البصر من نظرة الحرام فإنها سهم من سهام الشيطان وتسلب المرء من كل خير، والصوم يلقي بظلاله على الجوارح من خلال هذه الدورة التدريبية لمدة شهر فتتنزه عن المحرمات، لينطلق بعده في هذه الحياة وهو متسلح بقوة الصبر وتحمل المتاعب وبقوة الإرادة الصلبة في مواجهة التحديات، فملكة التقوى والتنزه عن المحرمات والشبهات هي الغاية الأسمى من صوم النفس، وإن تساءلنا عن موقعية صيامنا من القبول الإلهي فالجواب يتضح مما سبق، فمتى ما وجدنا تغيرًا إيجابيا أحدثه الصوم في نفوسنا وامتناعها عن الاستجابة لنداء الشهوات فهذا يعني تسلل نور الورع والخشية من الله إلينا، فإن الحرص الإيماني على تجنب ارتكاب الذنوب والرقابة والتدقيق في كلماتنا وسلوكياتنا طيلة الشهر الكريم سينعكس على هيئة ممانعة نفسية بقية الشهور.

ثم يتطرق أمير المؤمنين (ع) إلى طهارة القلب من أسباب الشر، فتارة يكون المؤمن مراقبًا لجوارحه من معاقرة المعاصي، ولكن لا يلتفت إلى تسلل الهوى إلى قلبه فيحدث ميلًا وشوقًا لارتكاب المعصية، نظرًا لتزيين الشيطان لها فيقع يومًا في المعصية بعد اشتداد قوة الهوى فتضعف النفس حينئذ، وهنا نرتقي إلى مفهوم الرقابة على طريقة تفكيرنا وطرد كل ما يتعارض مع وعينا ورشدنا من الأفكار الشيطانية المزينة للحرام، فمتى ما عرضت عليه مخالفة شرعية ومعصية تذكر رقابة الله تعالى عليه واطلاعه على كل أحواله في السر والعلن فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها، كما أن التفكر في عواقب الأمور يقيه من الانجرار والانسياق إلى المعصية، فيتأمل حاله في وسط أهوال يوم القيامة وما سيلحق به من عقوبة إلهية، كما أن الخسران الأكبر يتمثل في سقوطه من عين أبصر الناظرين وانتقاله من الرضوان إلى السخط الإلهي، فالصوم في شهر رمضان جائزة سنية لتغيير النفس وإصلاحها والسير في طريق تحصيل ملكة التقوى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى