أقلام

لماذا نميل إلى ما نميل اليه؟ علم الأعصاب وراء الأشياء التي تروق لنا

بقلم آنا كليمنتي، باحثة ما بعد الدكتوراه في علم الأعصاب المعرفي، جامعة برشلونة

المترجم:عدنان أحمد الحاجي

نحن البشر، حالنا حال الأنظمة المعرفية (1) الأخرى، حساسون لما يجري في محيطنا، نوظف المعلومات الحسية لتوجيه سلوكنا.  نحن من يقرر كيف نتصرف بناءً على قيمة المتعة(2) التي نخصصها للأشياء أو الأشخاص أو المواقف والأوضاع والحالات أو الأحداث / الممارسات.  نسعى وراء سلوكيات تؤدي إلى مخرجات إيجابية أو مجزية وننخرط فيها، ونتجنب تلك التي تؤدي إلى تبعات سلبية أو عقابية(3).  نحن نبني معرفتنا بعالمنا وفقًا لمستوى ميلنا إلى عناصر بيئتنا ومدى ما تروق لنا وتعجبنا(4)،  نفعل ذلك من خلال اكتساب المعرفة (التعلم) الناتجة من تغيرات في توقعاتنا للأحداث المستقبلية البارزة مثل الانخراط في ممارسات مجزية وتجنب ما له تبعات عقابية(5).

تقييم المتعة هو باختصار آلية بيولوجية أساسية، بالاضافة إلى كونها ضرورية للبقاء على قيد الحياة(6).

تقليد معياري

منذ آلاف السنين، سعى الفلاسفة والعلماء إلى تحقيق هدف مشترك: معرفة القوانين التي تربط خصائص الأشياء  بمتعة الإحساس بها.

فكرة أن الميول والتفضيلات [أي ترتيب البدائل بناءً على منفعتها / فائدتها النسبية] المنبثفة من الشيء تعود إلى الفكر الفلسفي الكلاسيكي.  فقد رأت مدرسة فيثاغورس أن قيمة المتعة لأي شيء تكمن في الانسجام والتناسب بين أجزائه.  وبالمثل، فإن خصائص، مثل التناظر والتوازن والنسبة الذهبية(7)، قد افترضت كمحددات / عوامل لأذواقنا(8).

تفترض هذه الفلسفة أن قيمة المتعة متأصلة في الشيء نفسه، لذلك من المتوقع أنها تستحضر استجابات محددة مسبقًا من حيث الجمال أو الذوق أو البهجة والسرور(9).

المثال الأحدث على هذا التقليد هي دراسة حديثة نشرت في مجلة نتشر السلوك البشري  Nature Human Behavior(10)، يدّعي مؤلفوها أن الميول والتفضيلات يمكن التنبؤ بها من خلال خصائص المنبه نفسه [المنبه هو أي شيء محسوس يستعدي استجابة الكائن الحي وقيامه بتصرف ما حياله].

ولكن لماذا إذن لدينا أذواق مختلفة ومتغيرة؟ لماذا نحب / نرغب فيما يكرهه الآخرون ونميل اليه ويروق لنا، والعكس صحيح، وكيف يمكن أن نتوقف عن الميل إلى شيء اعتدنا على الميل له والرغبة فيه، أو العكس، هل خصائص المنبهات غير كافية لتفسير سبب ميلنا إلى ما نميل اليه ونرغب فيه؟

حساسية المتعة

هذه النظريات والافتراض المعبِّر عنها لم يصمد أمام الاختبار التجريبي [على أرض الواقع] الدقيق(11)، فالتناظر لا يروق للجميع؛ فهو يعتمد على الشعور ونوع الشخصية(12)، وتفضيل النسبة الذهبية يمثل متوسط الذوق [بين الناس] وليس الذوق الفردي(13).

من الخطأ الافتراض أن الاتجاهات (الميول) العامة تعني الوتيرة الواحدة(14) أو أنها مؤثرة في القوانين الكلية، فهي في الواقع تخفي تباينًا كبيرًا في حساسية المتعة(15)، أي في الدور الذي تلعبه خصائص الأشياء في مدى ميلنا اليها.

لكل فرد مجموعة فريدة من الخبرة والمعرفة تؤثر في تقييمه للشيء، كما يرتبط التقييم أيضًا بالوضع والحالة التي يحدث فيها هذا التقييم، ومن هنا جاءت العبارة المشهورة “الناس فيما يعشقون مذاهب”.

الفروقات الفردية

بالتأكي، نحن نميل الى أشياء مختلفة بطرق مختلفة، وأحد أسباب ذلك هو أن الأدمغة مختلفة(16) وذلك لأسباب وراثية أو نمائية [مرونة / لدونة عصبية؟](17) أو اختبارية، وهذا يعني أن العمليات المسببة للتقييمات مختلفة أيضًا.

دراسة هذه العمليات كل واحدة لوحدها هي المفتاح لفهم الآليات الاجمالية، وقد ساهم علم الأعصاب بشكل كبير في هذا الصدد.

تعد الاتصالية،بين المناطق الحسية وجهاز المكافأة في الدماغ أمرًا ضروريًا لتقييم المتعة.  فهي تفسر التباين الكبير في المتعة التي نحصل عليها من المنبهات، مثل الموسيقى(18). وهذا يعني أن متعة الاستماع إلى الموسيقى تعتمد على كيف تتواصل مناطق الدماغ هذه مع بعضها(19). لدرجة أن هذه المعلومات الحسية التي لا تُنقل إلى جهاز المكافأة في الدماغ ليس لها قيمة للمتعة، وهذا هو الحال في حالة عدم التلذذ [عدم الاحساس بالمتعة(20)] الخاصة بالموسيقى(21)، حيث هذا التواصل ضعيف / متضرر، ونتيجة لذلك، لا يتمكن المصابون بهذه الحالة من الاستمتاع بالموسيقى.

عامل مهم آخر هو الخبرة السابقة، المسؤولة عن الاختلافات في الذوق بين الناس وبين اللحظات المختلفة في حياة الفرد(22).

الألفة [بالشيء] ضرورية لتحديد التفضيلات (الميول)، في الواقع، المتعة التي نشعر بها من استماعنا للموسيقى المألوفة وغير المألوفة لنا تنطوي على نشاط دماغي مختلف، حتى لو كان التكرار المفرط يجعلنا نشعر بالسأم والملل منها، فنحن نميل إلى ما نألفه(23).

ميولنا إلى أشياء من أصناف مختلفة متحيزة بسبب تفضيلاتنا ، لذا فإن الصنف المفضل يحدد المسطرة التي نستعملهعا لقياس الأشياء ومقارنتها، أي أننا نقارن كي نختار بين الخيار المفترض وبديله(24).

العوامل السياقية

الفروق الفردية تفسر التنوع في الذوق بين الناس، وكيف أن التقييم المصرح به يغير ويعدل من الذوق حسب الظروف، فنحن نميل إلى حب أشياء مختلفة في أوقات مختلفة.

إذن كيف تتطور تفضيلاتنا؟ الكائنات الطبيعية فيما يتعلق ببقائها على قيد الحياة مزودة بخصائص حسية معينة.  وهذا يسمح لنا بتعلم كيف نتحسس المخاطر والمحاسن – وهذا هو المبدأ الأساس الذي من خلاله نطور التفضيلات.  ومع ذلك، هذا لا يفسر سبب الاختلاف في الحقيقة.  أحد الأسباب هو أن التقييمات تتأثر بالسياق(25).

معظم الأنظمة المعرفية تطور آليات تسمح لها بالأخذ في الاعتبار المعلومات الأخرى المتعلقة بحالات واحتياجات وأهداف وتوقعات النظام المعرفي وشروط التقييم.  على سبيل المثال، يتأثر اختيار التزاوج لدى الإناث بتفضيلات الإناث الأخرى: أنثى سمك الجوبي (26) تميل إلى ذكر مرفوض سابقًا من قبل أنثى [واحدة أو أكثر] إذا رأت لاحقًا إناثًا أخرى تلاحقه.

تؤثر التوقعات والفسيلوجيا والبيئة بشكل كبير في التقييم، فهي تؤثر في طريقة عمل الأجهزة الحسية والمعرفية والانفعالية [المترجم: الانفعالية تتعلق بالنواة المتكئة واللوزة الدماغية المرتبطة بالتصرف الموجه نحو الهدف والمتأثرة بالدوبامين(27).

على سبيل المثال، عندما نشعر بالجوع، غالبًا ما يكون أكل شيء حلو أمرًا ممتعًا جدًا، وعندما نشبع، تنخفض متعة الأكل، لدرجة أننا نكره طعامنا المفضل في بعض الأحيان. [المترجم: انظر التفصيل في الورقة المعنونة بـ التغير في نشاط الدماغ المتعلق بتناول الشكولاتا: من الاستمتاع إلى النفور(28).

أنظمة التقييم

باختصار، قيمة المتعة ليست متأصلة في الشيء، ولا يمكن التنبؤ بها بشكل حصري على أساس خصائصها، فهي تعتمد على البيولوجيا العصبية الفردية والموارد الحوسبية المعنية [كالوقت والذاكرة].

هذا لا يعني أن التقييمات عشوائية، فلو كانت كذلك، فلن يكون لها منفعة بيولوجية تذكر، بل على العكس، فقد تطورت آليات الدماغ لتوفير استجابات مرنة في بيئة متغيرة(29).  [الاستجابات المرنة: القدرة على الانتقال بسهولة بين العمليات الذهنية استجابة للمنبهات الخارجية ومتطلبات المهام المختلفة(30).

نفس المنبه يمكن أن يأخذ قيمًا مختلفة اختلافًا جذريًا بناء على الحالة، فقد يكون نافعًا لفرد وضارًا للآخر؛ وقد يكون مفيدًا في بعض الظروف وضارًا في ظروف أخرى.

وبالتالي، فإن أنظمة التقييم [وهي أنظمة تتعلق بـ الاشراط البافلوفي(31) والعادة والهدف / القرار الموجه للسلوك(29)]  قابلة للتكيف وليست إلزامية، وهي تخدم البقاء على قيد الحياة بشكل أفضل من خلال التنبؤ بقيمة الأشياء في أوضاع معينة.

الإدراك الحسي ليس ادراكًا خاملًا لخصائص الأشياء، بل هو وسيلة يحاول النظام المعرفي النشط من خلالها فهم المحيط، ويفعل ذلك من خلال التقييم المستمر للخبرة والأهداف والتوقعات المرتبطة بهذه الخصائص(32).

إن نظرتنا إلى العالم ليست ساذجة أبدًا، فنحن ندرك ونقيم من خلال منظور معرفي فردي ووضعي(33، 34)؛ منظور خبرتنا ومعرفتنا واهتماماتنا واحتياجاتنا وأهدافنا وتوقعاتنا.

نحن نميل إلى ما نميل اليه لأننا نحن على ما نحن عليه في الوقت الحالي.

المصدر الرئيس

1- “النظام المعرفي cognitive system نظام معقد يتعلم ويكتسب المعرفة.  يمكن أن يكون إنسانًا أو مجموعة أو شركة أو كمبيوترًا أو مزيجًا من واحد أو أكثر من هذه الأشياء المذكورة . ويمكنه تقديم تمثيلًا حوسبيًا للعمليات المعرفية البشرية لزيادة القدرات المعرفية للقدرات البشرية.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://www.igi-global.com/dictionary/cognitive-system/4258

2- “قيمة المتعة hendoic value القيمة التي يتلقاها العميل بناءً على شعوره الشخصي بالمرح والسرور. ” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://www.igi-global.com/dictionary/hedonic-value/12938

3- https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-1-4939-1236-0_11

4- “العناصر البيئية environmental elements تعني العناصر المتنوعة المكونة للبيئة من الهواء والماء والتربة والنباتات والحيوانات وجميع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية التي تؤثر في المجتمعات.  ”ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://www.lawinsider.com/dictionary/environmental-elements

5- https://www.science.org/doi/10.1126/science.275.5306.1593

6- https://academic.oup.com/edited-volume/35428/chapter-abstract/303189972?redirectedFrom=fulltext

7- https://ar.wikipedia.org/wiki/نسبة_ذهبية

8- https://www.jstor.org/stable/429278

9- https://nyaspubs.onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/nyas.14524

10- https://www.nature.com/articles/s41562-021-01124-6

11- https://online.ucpress.edu/mp/article-abstract/35/4/475/110142/A-Psychocultural-Theory-of-Musical-IntervalBye-Bye?redirectedFrom=fulltext

12- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/ejsp.2565

13- https://journals.sagepub.com/doi/10.1068/p240937

14- https://ar.wikipedia.org/wiki/وتيرة_واحدة

15- https://www.tdx.cat/handle/10803/673506#page=1

16- “دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الحديثة بيَّنت أن الاختلافات الفردية في مجموعة واسعة من الوظائف المعرفية الأساسية والعالية في الدماغ البشري – بما فيها الإدراك الحسي والتحكم الحركي [تحكم الجهاز العصبي في الحركات الإرادية  وألَّاإرادية ] والذاكرة وجوانب الوعي والقدرة على الاستبطان – يمكن التنبؤ بها من البنيويات الموضعية للمادة الرمادية والمادة البيضاء.”

https://www.nature.com/articles/nrn3000

17- https://www.cell.com/trends/cognitive-sciences/fulltext/S1364-6613(11)00170-7?_returnURL=https%3A%2F%2Flinkinghub.elsevier.com%2Fretrieve%2Fpii%2FS1364661311001707%3Fshowall%3Dtrue

18- https://www.frontiersin.org/articles/10.3389/fpsyg.2017.01664/full

19- https://www.pnas.org/doi/full/10.1073/pnas.1611211113

20- https://ar.wikipedia.org/wiki/انعدام_التلذذ

21- https://academic.oup.com/scan/article/11/6/884/2223400

22- https://academic.oup.com/scan/article/14/4/459/5400657

23- https://link.springer.com/article/10.1007/s40732-018-0312-1

24- “الخيارات المفترضة وبدائلها default options and alternatives:  أكدت البيانات السلوكية أن الأشياء المأخوذة من الفئة المفضلة يتم اختيارها في كثير من الأحيان وبسرعة أعلى، مما يؤهلها كخيارات مفترضة.  أظهرت بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI أن النشاط الأساس في مناطق التقييم الكلاسيكي في الدماغ، مثل القشرة الأمام جبهية البطنانية ventromedial prefrontal cortex (vmPFC)، يعكس قوة التفضيلات المسبقة. بالإضافة إلى ذلك، النشاط المثار في نفس المناطق الدماغية يرتفع مع ارتفاع قيمة الخيار المفترض، بغض النظر عن الخيار النهائي.  لذلك نقترح أنه في جهاز التقييم في الدماغ، تؤطرالخيارات كمقارنات بين الخيارات المفترضة والخيارات البديلة، والتي قد توفر بعض الموارد ولكنها تبعث على اتخاذ قرار متحيز.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://elifesciences.org/articles/20317

25- https://nyaspubs.onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/nyas.14524

26- https://ar.wikipedia.org/wiki/جوبي_(سمك)

27- https://dictionary.apa.org/seeking-system

28- https://academic.oup.com/brain/article/124/9/1720/303201

29- https://www.nature.com/articles/nrn2357

30- https://www.med.unc.edu/radiology/w-lin-mri-to-map-emergence-of-flexible-neural-activity-in-infants/

31- https://www.pnas.org/doi/full/10.1073/pnas.2002645117

32- https://bpspsychub.onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/bjop.12427

33- ” الإشراط البافلوفي مصطلح  يصف شكلًا من أشكال التعلم الترابطي، حيث يكتسب منبه خارجي معين القدرة على استحضار استجابة الكائن الخاصة بمنبه آخر” مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان:

https://ar.wikipedia.org/wiki/إشراط_كلاسيكي

34- “المعرفة الوضعية هي نظرية تفترض أنه لا يمكن التفريق بين المعرفة والعمل إذ أنها تعتبر أن سياق النشاطات الاجتماعية والثقافية والمادية تفرض كل معرفة وضعية .”  مقتبس ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان:

https://ar.wikipedia.org/wiki/معرفة_وضعية

المصدر الرئيس

https://theconversation.com/why-do-we-like-what-we-like-the-neuroscience-behind-the-objects-that-please-us-196330

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى