أقلام

الانسلاخ عن الإنسانية والفطرة السليمة

السيد فاضل آل درويش

قال رسول الله (ص) في وصيته له: يا علي أربعة أسرع شئ عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافأك بالاحسان إليه إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر فوفيت له وغدر بك. ورجل وصل قرابته فقطعوه)(الخصال ص ٢٣٠).
الحياة الدنيا في المفهوم القرآني هي دار العمل وميدان يعدو فيه الإنسان وقد عدت عليه أنفاس عمله وأقواله إلى أن يحين الأجل، وأما الحساب والجزاء على ما قدم من عمل فهو مرهون باليوم الآخر إذا نصبت موازين العدالة الإلهية، ولذا علينا تحمل مسئولية أفعالنا وتحري الصواب وتجنب الخطايا بعيدًا عن حياة المترفين الغافلين، ممن ارتبط وجودهم بزينة الدنيا وفعل ما يحلو لهم دون مراعاة القيم الدينية.
والسنن الإلهية في الأمم السابقة شملت فيها العقوبات الدنيوية من عصى واستكبر كما ذكر القرآن الكريم من أغرقهم الله تعالى بالطوفان ومن خسفت بهم الأرض ومن نزلت عليهم صاعقة السماء، وأما بعد بعثة الرسول الأكرم (ص) فقد رفعت العقوبات الدنيوية مع بيان شروطها، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}{ الأنفال الآية ٣٣}.
ولكن هناك من المعاصي ما يعجل فيها العقوبة في الدنيا قبل الآخرة لما تحمله من فظاعة وانسلاخ عن الإنسانية والفطرة السليمة، إذ هذه الذنوب تنبيء عن شخصيات انتهازية وجاحدة للنعم وتحمل في أفئدتها السوداء الكراهية والأحقاد، فتوجيه الإساءة والغدر بمن صنع المعروف وأحسن للغير ومقابلته بالأذية وتوجيه الضرر يشير إلى من صفتهم اللؤم والخسة، فاللئيم لا يهتم لنتائج خطواته وحصوله على مصالحه الصالحة من جهة خرقه لنظام القيم والآداب الإنسانية ولا من جهة تضرر غيره بما يقدم عليه، إذ مكنون نفسه يستبطن مجموعة من الصفات السيئة وهي التي تحرك قواه وتدفعه نحو الأفعال المنافية للأخلاق، فهو إنسان أناني يقصر نظره وخطاه على ما ينفعه ولا يبدي أي اهتمام بتقديم المساعدة للمحتاجين، بل يعرض عنهم صفحا ويغلق أذنيه عن استماع أنينهم وتأوهاتهم من الفقر والأزمات الأخرى، والأدهى من ذلك هو تمنيه الأسى وحلول النكبات والمصائب بالآخرين ليتشفى منهم ويتراقص على جراحاتهم وآلامهم، كما أنه يمتاز بطريقة تعامل متعجرفة وخشنة مع الآخرين لأنه لا يقيم لهم وزنًا ولا يحترمهم، ويحوم كالصقر حول منافعه إذا ما كانت مصلحته مع أحد ويتلطف في التعامل معه ويظهر محبوبيته بغية الحصول على ما يبتغيه، وفي سقوطه الأخلاقي لا يتصور أين يصل فحتى أسرار وخصوصيات الغير يعدها ورقة يلعب بها في ساحة المصالح والعلاقات وهو مستعد لإفشائها متى ما دعته الحاجة لذلك، ولا يمكنه الاعتراف بفضل الآخرين عليه فهو جحود وناكر للنعمة حتى من أقرب الناس إليه.
و يذكر لنا الرسول الأكرم (ص) بعضًا من صفات أهل الخداع واللؤم والخسة وما يجري عليهم من عقوبات دنيوية معجلة، وذلك بسبب انسلاخهم من إنسانيته والقيم الأخلاقية الداعية لها الفطرة السليمة، فقد تحولوا إلى عالم البهيمية والافتراس والانقضاض على الفرائس دون رحمة في تعاملهم مع الناس.
من تلك الصفات لهؤلاء هي مقابلة الإحسان بالإساءة، فالفطرة السليمة تحرك فينا مشاعر الامتنان والشكر لمن قدم لنا أبسط شيء ولو تلك الابتسامة في وجهه أو التحية الطيبة التي يلقيها علينا، فكيف بمن يمد لنا يد العون والمساعدة في وقت نكون فيه بأمس الحاجة لمن يسعفنا للخروج من مشكلة عويصة أو مطب كبير وقعنا فيه، ولكن اللئيم يقابل ذلك المحسن بالتجاهل والصدود بل ويصل الأمر إلى توجيه الإساءة إليه، متناسيًا ومتجاهلًا لمن أنقذه يومًا من ورطته!!
ومن صفاته الأخرى هي البغي بمعنى الظلم والعدوان الاجتماعي من خلال تعديه على حقوق الغير المادية والمعنوية، وهذا الظلم لا يقع منه على من ظلمه يومًا – وإن كان ذلك إثم، ولكنه يتجرأ على حرمة الغير ممن لم يقابله بمثل هذا الجور، ولكنها نفسه المريضة أخلاقيًّا لا تستثني أحدًا ولو كان مسالمًا.
ومن الصفات السيئة المعجلة بالعقوبة الغدر من خلال خداع الآخرين حتى يوقعهم في حفر مكره، وحتى من تعاملوا معه بالحسنى فكانوا الأوفياء في عهودهم معه ومع غيره، فإنه يقابلهم بابتسامته الصفراء ليخفي ما يكنه لهم من مشاعر الحقد والحسد.
وأخيرًا فإنهم قاطعو رحم لا يصلون أحدًا؛ لأنهم يسيرون خلف مصالحهم ولا يحترمون صلة النسب مع أحد، فالخيانة والغدر والكذب والقطيعة تمثل جانبًا من شخصياتهم التي جانبت الفطرة السليمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى