أقلام

استدرار الدموع باختلاق الأحداث

السيد أمير العلي

لا يكتفي بعض النعاة بنقل أحداث الطفّ وغيرها من الفجائع عن المصادر المتأخّرة جدًّا، وضعيفة الاعتبار، بل يبتكرون وقائع لا تجدها لو بحثت، في مكان سوى ذهن هذا الناعي أو ذاك، وربّما لا تجدها حتّى في ذهنه قبل أن يشعر بضرورة إلهاب حماسة المستمعين واستدرار دموعهم وهو على المنبر.

سمعت قبل مدّة أحدهم على قناة فضائيّة يقول متفاعلًا: وأخذت “السيّدة رقيّة” رأس الحسين عليه السلام، وخرجت به من خربة الشام، وصارت تخاطب الأطفال: هذا بابا !!

وتناهى إلى سمعي عن بعضهم أنّ السيّدة زينب حينما عادت إلى كربلاء جلست عند قبر أبي عبدالله، وغرزت يدها في تراب القبر فخرج دم كثير!

ولمّا سمع عطيّة بكاء النساء على القبر الشريف ذهب يستطلع الأمر، فقالت له زينب: تعال نبكي معًا على الحسين..!

هذا بعض من الأمثلة، وقد لا تخلو ذاكرة القرّاء الكرام ممّا يشبهها، ولعلّنا نشهد تصاعدًا في حجم هذه المخترعات في قادم الأيّام، وهي مخترعات ليست على قاعدة لسان الحال، وليست ممّا تقتضيه أو لا تمنع منه طبيعة الأشياء، ولا من مقتضيات السرد الروائيّ للأحداث.

وإذا أردنا أن نتعرّف على شيء من خطورة الأمر، فلنتصوّر أنفسنا بعد قرن من الزمان، نطالع كتابًا حديثًا في مقتل الإمام الحسين الشهيد صلوات الله عليه، كتبه أحد الكتّاب المتأثّرين بالتخريجات المعروفة في تبرير الاعتماد على أيّ مصدر في النقل التاريخي، ثمّ يأتي باحث جادّ ليحقّق في مدى اعتبار نقولات ذلك المقتل، فترفع في وجهه لائحة الاتّهام بالضعف العلميّ والنيّة المغرضة، فلعلّ ذلك الكاتب حصل على مصدر ورثه من أجداده، أو عثر عليه بعد بذل الجهد والمال، فنقل منه تلك الأحداث التي لم يجد لها ذلك الباحث الناقد المسكين عينًا ولا أثرًا، فيما سبقه من كتب ومدوّنات تاريخيّة.

ولست أرى هذا الاستشراف المستقبليّ بعيدًا، وحينها لن تنفع دعوة تحقيقيّة، ولا نداء علميّ في إزالة ما يترسّخ في وجدان المؤمنين من تصوّرات، وربّما تصبح المحاولات النقديّة محرّمةً بعناوين ثانويّة طارئة!

ماذا نعمل إذن؟

لا شيء، غير أن ندعوا إلى الاكتفاء على الأقلّ بسرد المتعارف من السيرة المذكورة في المصادر المتأخّرة، وإن ضعف اعتبارها، مع الإشارة بنحوٍ ما إلى احتماليّة عدم مطابقة المنقول للواقع، إضافةً إلى عدم تجريم محاولات التحقيق والنقد الجادّة، وتقدير جهود أصحابها، والابتعاد عن التشكيك في نواياهم.

وإنّ لجمهور المستمع دورًا كبير في هذا المجال؛ فإنّ الخطيب من حيث يشعر أو لا يشعر يعتني بإرضاء ذائقة المستمعين، أو عدم مصادمة توقّعاتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى