أقلام

الشيخ باقر أبوخمسين عميد الفقهاء في الأحساء وإمام المثقفين والشعراء

محمد رضا بن السيّد عبد الله الشخص

الحديث عن الشخصيّات المميّزة، أو المتميّزة لا يستدعي أن يكون المتحدّث عنها معاصرًا لها، أو مشتركًا معها في النسب أو الاختصاص، وإنْ كان حديث الفقيه عن الفقيه، والمثقّف عن المثقّف، والشاعر عن الشاعر، والأديب عن الأديب، يأتي أصدق وصفًا، وأدقّ معرفةً، وأحسن قولاً.

وشخصيّتنا التي هي موضوع الحديث في هذا المقال المقتضب، جمعت بين الفقه والثقافة والأدب والشعر، ناهيك عن المكانة الاجتماعية والأسرية، إنّه سماحة العلّامة الشيخ باقر بن الشيخ موسى آل أبي خمسين – رضي الله عنه وأرضاه -، وعلى الرغم من فارق العمر الذي منعني من مجالسة هذا العالم أو التعرّف عليه من قرب إلاّ أنّني لا زلت أتذكّر مجالسته لوالدي الخطيب السيّد أبي نزار -رحمه الله- في مجلس السيّد جواد السلمان العبدالمحسن (عمدة القارة آنذاك)، وكنتُ أصلِّي جماعةً بإمامته في مسجد الجماعة، بحسب ما يطلق عليه في ذلك الوقت، وهو أوّل مسجدٍ في القرية بالبناء الحديث المسلّح بالحديد والإسمنت، وكان وقاره وهيبته تشدّان ذلك الطفل اليافع في نهاية الثمانينات وأوائل التسعينيات الهجرية (1388هـ-1393هـ) تقريبًا، عندما يحظى بالسلام عليه بعد الصلاة وتقبيل يده الكريمة التي يسحبها غالبًا بهدوء قبل تقبيلها، وما زلت أتذكّر طريقة قراءته لسورة الفاتحة في صلاتي العشاءين، وكم كنت أشعر بجمال السورة وفصاحة قارئها، حتى بقيت سنوات عديدة أقلّده في القراءة لهذه السورة المباركة إذا أدّيت الصلاة مفردًا.
وما أدري لعلّ ذلك كان مفتاحًا للرغبة لي في أن أخوض ميدان (البلاغة) في دراستي الأكاديمية، والبحث في (إعجاز القرآن)؛ لأنّه شكّل اهتمامًا خاصًا بالنسبة لي في أعمالي البحثية، ليكون بذلك هو صاحب الفضل عليَّ في هذا التوجّه، فجزاه الله خير الجزاء لقاء ما أفاد منه الكثيرون.
وحتى أستطيع أن أنقل صورةً سريعةً لقارئ هذا المقال عن شخصيّة هذا العالم الجليل فأقول على سبيل الإيجاز لا التفصيل: إنّ هذا الشيخ الجليل بدأ بتلقّي العلوم الشرعيّة ولم يصل سنّه بعد الخامسة عشرة من العمر في مدينة العلم والعلماء (النجف الأشرف)، وتعطّشت ذائقته إلى قراءة ما يستجدّ من كتاباتٍ في الأدب والشعر وهو دون العشرين من عمره، فاقتنى عددًا من المجلات، وقرأ كثيرًا من الصحف التي تصدر آنذاك في العراق ولبنان، ولم يطل به الوقت حتى صار أحد الكتّاب المعروفين على صفحاتها مُوقِّعًا تحت ما يكتبه: (محمد باقر الهجري)؛ تعلّقًا بوطنه (الأحساء) التي يفضّل تسميتها بـ (هجر)، وله فيها كتاب أسماه (هجر في مراحل التاريخ).
وما غادرنا الشيخ الجليل إلى جوار ربَّه إلاّ تاركًا عددًا من المؤلَّفات التي تحكي لنا عن مكانته العلميّة والثقافيّة والأدبيّة، فقد قدَّم -رضوان الله عليه- للمكتبة العربية ما يزيد عن خمسة عشر مؤلَّفًا، يتصدّر هذه المؤلَّفات: (أخلاق القرآن)، و(تراجم أعلام هجر)، و(لماذا نقدس القرآن)، وهذا الكتاب الذي قام بتحقيقه كل من الفاضلين: الشيخ حسين بوخمسين، والأستاذ المهندس إبراهيم سلمان بوخمسين، وظهرت الطبعة الأولى منه عام (1435هـ-2014هـ) عن طريق (جواثا للنشر) في بيروت، حصلت بتوفيق من الله على نسخة منه وتشرّفت بقراءتها، ولا أبالغ إذا قلت: إنَّ هذا المؤلَّف يقدّم لنا صورةً واضحةً عن مكانة الشيخ محمد باقر بوخمسين العلميّة والثقافيّة والأدبيّة، فقد جاء الكتاب في لغةٍ راقيةٍ وأسلوبٍ رفيعٍ، وممّا قاله المؤلِّف في مقدّمته: “إنّ القرآن هو الكتاب الذي جعل الحياة بعد أن كانت مظلمةً نورًا، وقادها من الشرِّ إلى الخير، ورفعها من الحضيض إلى العلا، فخشع له القلب وأخذه له نبراسًا، واطمأنّت له القلوب ]النفوس[ وجعلته لها إمامًا”.
وأمّا خاتمة الكتاب، فقد اكتفى المؤلِّف بثلاثة أسطر يقول فيها: “إنّ الدين الذي لا يساير العلم ولا يدعمه ليس بدين يستحقّ الإكبار؛ لأنّه لا يتمكّن أن يهذّب النفس من رذائلها فيصعد بها إلى مراتب الكمال والعرفان، ولا يستطيع أن ينهض بالأمّة إلى اعتناق الفضائل فيخلق منها أمةً تستحقّ الخلود”.
ولعلّ نظرةً سريعةً على محتوى هذا الكتاب وعناوين مباحثه لكافية للقارئ في إعطائه فكرة عن تشعّب المعارف التي يتمتّع بها شيخنا العالم المتبحّر، ومن تلك المباحث –على سبيل المثال لا الحصر–: (مكانة الماء والهواء في نظام الخلقة، خلق النبات، خصوصية الروح، العقل في القرآن، النفس في القرآن، العلم في القرآن، المرأة في القرآن، الحقوق الشخصية في القرآن، الرفق بالحيوان في القرآن … إلخ)، وأضف إلى ذلك حديثه عن (الرّق) عند اليونان، وعند الرومان، وعند اليهود، وعند المسيحيين، وفي أوروبا، وهناك إلى جانب ذلك كلّه زهاء سبعين مبحثًا تناولها الشيخ غير ما ذكر.
وربّما تقدّم هذه الوقفة العاجلة أمام كتابه (لماذا نقدّس القرآن) صورةً للمستوى الذي ترقى إليه مؤلَّفات الشيخ محمد باقر بوخمسين.
وأمّا الحديث عن شعره فقد تكفّل به صاحب كتاب (الشيخ باقر أبو خمسين: علم وعطاء وأدب) الأستاذ محمد علي الحرز، الذي جمع في هذا الكتاب –وهو يربو على ثلاث مئة صفحة– كل ما يتصل بحياة الشيخ، جمعها من عدد من المراجع المطبوعة والكتب المخطوطة، والمقابلات مع عدد من الشخصيّات وثيقة الصلة بسماحة الشيخ، وقد بذل في هذا الكتاب جهدًا كبيرًا، غطّى فيه جلّ حياة الشيخ إنْ لم يكن كلّها، وقد تحدّث فيه عن سيرة حياته، ودراسته، وعطائه العلمي والأدبي، إلى جانب أنشطته العلمية والاجتماعية، وتولّيه مهمة القضاء لمدّة ربع قرنٍ تقريبًا (1388هـ-1421هـ).
وفي هذا الصدد أجدني منقادًا إلى رواية موقفٍ مع والدي -رحمه الله تعالى– صديق الشيخ حين سمع قصيدةً لي نظمتها في رثاء شقيقه العمّ الجليل السيّد محمد الشخص (أبي هاشم)، وكانت تتضمّن أبياتًا تشير إلى بعض صفاته –قدّس الله نفسه الزكية– ومنها: (التقى، المكرمات، الحنو على اليتامى … إلخ)، وحينها تذكّر الوالد –رحمه الله– قصيدة الشيخ –قدّس سرّه– في رثاء صديق عمره (السيّد جواد بن السيّد سلمان آل عبدالمحسن)، وكانت تتضمّن ذكر تلك الصفات للسيّد جواد وأكثر منها، فسألني الوالد -رحمه الله-: هل حفظت قصيدة الشيخ باقر أبي خمسين في رثاء السيّد جواد السلمان -رحمهما الله-؟، فقلت له: لا، فقال: هل سمعتها، فقلت: لا أتذكّر ذلك، فقال لي: يقول الشيخ باقر -رحمه الله- في مطلعها:
ذِكْرَاكَ ذِكْرَى التُّقَى والمُرْتَقَى العَالِي ذِكْرَى الكَرَامَات أجيالاً لأجيالِ
ذِكْرى تَدُومُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ بِهِ كَآيَة الذِّكْرِ مِنْ تَالٍ إلى تَالِ
وفيها يقول:
هَذَا اليَتِيمُ الذِي يُؤْذِيكَ مَدْمَعُهُ
فَقُمْ مُغِيثًا وكَفْكِفْ دَمْعَهُ الغَالِي
وفيها يقول عن حال أصحابه القادمين للعزاء:
يَسْتَطْلِعُونَ لِوَجْهٍ مِنْكَ يَغْمُرُهُمْ
بِالمَكْرُمَاتِ كَمَاءِ المُزْنِ هَطَّالِ
ثمّ يعّقب الوالد -رحمه الله تعالى- فيقول: “لو كنتَ اطّلعتَ على قصيدة الشيخ باقر تلك لجاءت قصيدتك جامعة بين صفات شيخ القبيلة الجليل في قومه، والعالم الزاهد الذليل لربّه”، وقد كان الوالد -رحمه الله- معجبًا بشعر الشيخ باقر والمعاني التي يتضمّنها، كما هو معجب بكتاباته النثرية، ويقول: “لو أراد الشيخ باقر أن يكتب رسالةً لصديقٍ من عشر صفحات، ورغب في توظيف (فنّ السجع) فيها لفعل ذلك بكلّ جدارة؛ لحسن ذوقه، وثراء لغته”.
وفي قراءةٍ سريعةٍ لديوانه (نغماتي) لفت انتباهي حسن الابتداء في جلّ قصائده إنْ لم يكن في كلّها، وأكتفي –هنا– بذكر ثلاثة أمثلة لأختم بها مقالتي هذه:
النموذج الأول: قوله في مستهلّ قصيدةٍ يرثي فيها الشيخ ابن عمران عنوانها (إيه ابن عمران):
هَتَفُوا بِنَعْيِكَ فَالأَسَى تَيَّارُ وَعَلَى البِلادِ لِوَقْعِهِ أَكْدَارُ
فَكَأَنَّهُ نَعْيُ الرَّسُولِ بِطَيْبَةٍ هُزَّتْ لَهُ الآفَاقُ وَالأَمْصَارُ

والنموذج الثاني: مطلع قصيدته في العلّامة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، يقول فيها وقد وضع عنوانها (أبا الحليم):
قِفْ حَيِّ نَابِغَةَ الأَجْيَالِ والحُقَبِ (أَبَا الحَلِيمِ) عَمِيدَ العِلْمِ والأَدَبِ
وَانْثُرْ جُمَانَ شُعُورٍ فَاضَ مُنْسَكِبًا لِمَفْخَرِ الشَّرْقِ مَنْ قَدْ حَازَ لِلْقَصَبِ

أمّا النموذج الثالث: فهو مطلع قصيدة بعنوان (لغة الدهر)، قدّم لها بقوله: “تُمحى كلّ حادثةٍ من رقعة الوجود وتبقى واقعة الطفّ رمز الخلود، ويُنسى كلّ صوتٍ للإنسانية ويبقى صوت الحسين لغة الدهر”.
استهلّها بقوله:
سُلّمُ المَجْدِ فِي شِفَارِ الصَّقِيلِ وَعُرَى العِزِّ فِي رِيَاشِ النُّصُولِ

وفي آخر حديثي عن الشيخ باقر –قدّس سرّه– أقول:
لَمْ يَمُتْ (بَاقِرٌ) لِنَنْعَى وَنَبْكِي ذَاكَ (شَيْخٌ) آثَارُهُ عَنْهُ تَحْكِي

وسلام على الشيخ يوم ولد، وسلام عليه يوم فقدناه، وسلام عليه يوم يبعث حيًّا.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى