أقلام

كورونا .. وحرب الخليج (الحلقة الثامنة) 

رباب حسين النمر

1073 بئر نفطي يتفجر ليشفي غليل صدام، ويشتعل 727 بئرًا مشكلًا في السماء غيمة سوداء غطت سماء الكويت ودول الخليج المجاورة كما تغطي العباءة جسد فتاة محتشمة، وتتمدد السحابة كقماش مطاطي يتسع لتصل إلى الدول المطلة على المحيط الهندي، وحولها تتسع ترهلات مشاكل بيئية ويتفاقم تلوث الجو العام، ويزحف حتى اليونان والصين، ويواصل مسيره حتى يعبر حدود القارة الأمريكية.

6000 برميل كان يتم تسريبها عمدًا إلى مياه الخليج لتتجمع بقعة نفطية تمددت على معظم سواحل الكويت والمملكة العربية السعودية والبحرين وقطر.

طيور الشاطيء تبدو سوداء معتمة بعد أن تغلغل النفط في ريشها وعبث بتركيبها، تحاول أن تعوم في الماء فلا تستطيع، وتحاول صيد الفرائس فلا تستطيع، وتحاول الطيران مجددًا فلا تستطيع!

وعندما تحاول أن تبعد عن جسدها هذا اللون المخيف المتغلغل في ريشها فتنظفه بمناقيرها فإن النفط يدخل من المناقير إلى جسمها فيتلف الكلى، ويعطل وظائف الكبد ويهيج أجهزتها الهضمية.

ولم تكن الثدييات والنباتات البحرية أوفر حظًا من الطيور.

عماتي الثلاث يصنعن فرحًا متميزًا يكسر رتابة الحرب، تتوافد الزائرات على بيت جدتي للتبريكات وتقديم الهدايا (حيا الله خلق الله الجديد)، وينتعش البيت ببكاء المواليد الناعم الباعث على الحب والحنان.

يتجمهر الأطفال حول المواليد الجدد يتفحصون الكائنات الجديدة، ويقبلون وجناتهم، يبهرهم الحجم الصغير لأيديهم وأرجلهم، وأعينهم الصغيرة المغمضة حينما تنفتح أجفانها ويبدو سوادها القاتم في بياضها الناصع، وأفواههم الباكية دومًا حينما تبحث عن شيء قابل للمص فتتناوله شفاههم الوردية الصغيرة فتمصّه وتسكت حيث تشعر بالدفء والأمان.

في ذلك الصباح استيقظت جريًا على عادتي، وأسرعت حيث عماتي.

كنت أستلذ كل صباح بتناول طعام الإفطار المميز معهن، فألحس العصيدة العجيبة اللذيذة التي تعدها جدتي بأطراف أصابعي، ويطربني سماع صوت قطع الكبدة التي تتقلقل في المقلاة مع قطع البصل فتفوح رائحتها وتستفز الشهية.

وأساعدهن ببعض شؤونهن فأحمل المواليد أو ألقمهم زجاجة الرضاعة، أو أجفف شعرهم بعد الاستحمام وألبسهم بعض الثياب.

عندما كنت أعبر درجات السلم في طريقي إلى الطابق السفلي، تناهى إلى سمعي صوت نحيب عمتي!

الدخان الذي ملأ السماء وتسلل إلى رئتيها الصغيرتين أنهك أنفاسها، وامتص آخر رمق من الأوكسجين، وتغلغل في شعبها الهوائية.

ماتت الطفلة في زمن ولادتها، والتقت الحياة بالموت في لحظات ميتافيزيقية اختلط فيها السواد بالبياض، والزغاريد بالبكاء!

الحليب يضج في صدرها، وبكاء المواليد من حولها يجعل الصغيرة البضة الجميلة الوردية تتجسد بين عينيها، فتهرب إلى ركن قصي، لتمارس حزنها وبكائها بعيدًا عما حولها، وتئن أنينًا مكتومًا، تتلوى تصرخ بصمت وتحاول أن تبدو متماسكة فيفضحها احمرار عينيها.

الحرب سرقت الرضع من أحضان أمهاتهن وكأنما الأحضان جبهات قتال تهب الشهداء للنضال، فلا فرق بين شاب في مقتبل العمر نكأ الحزن قلب أمه، وطفلة لم تكد تتذوق الحياة حتى لفظت آخر الأنفاس فبقيت أحضان والدتها فارغة وعينيها شاخصتان نحو السماء.

يتبع ……

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى